نحن المتغابين أسفله

Photo

نحن المتغابين أسفله نعلن أنّه آن الأوان أن نعترف بأنّنا كنّا متغابين ومغفّلين أيضا..

والحياة لا تحمي المتغابين ولا المغفّلين.. فهي تمنح طوال التّاريخ البشريّ لحظات قليلة فارقة فيها تحدّد الشّعوب مصيرها ولكنّنا من فرط غفلتنا أوغلنا في الغفلة وتركنا المصير.

ونحن في كلّ الأحوال نفضّل الغفلة والتّغابي على اليقظة. فاليقظة تؤلمنا والحقيقة موجعة رغم أنّها تظلّ الحقيقة. فنختار ألّا نفتح أعيننا عليها ونتظاهر بالغفلة والغباء ملاذنا من الوجع.

متغابون كثيرا.. ففي الوقت الذّي غرقنا فيه في الجدالات العقيمة حول الهويّة وحول المحجّبات والمنقّبات والسّافرات وحول الملتحين وطول اللحية وعرضها وحول صدر أمينة وشريط برسوبوليس وحول حقّ السلفيين في الوجود وجواز إلقائهم في البحر .. كانت الأموال تهرّب والمليارات تغادر البلد دون رجعة لتقيم في أمان واطمئنان باسم شركات وهميّة وكانت " الدّولة المافيوزيّة "، التي لم تعبأ بالهزّة ولا بالدّستور الجديد ولم تتعلّم من التّاريخ لأنّها لا تقرأ التاريخ، تتمدّد جذورها وتترسّخ في العمق ولم يكن الحزب القديم المنحلّ سوى القمّة التي تظهر من جبل الفساد الكبير الذّي يخفيه محيط الفوضى الشّاسع.

وبدل التوحّد ضدّ جبل الفساد الذّي لم تهزّه ريح الثّورة إلّا قليلا ولم تمسّ إلّا ما ظهر، فما خفي كان أعظم، انشغلت الأحزاب والملل والنّحل بالتّقاتل والتّناحر والرّكض بكلّ السّبل نحو السّلطة وانخرطت بدورها في الفساد بالبيع والشّراء وبالمال السّياسي الذي لم ينج منه سوى القليل.

آن لنا الاعتراف أنّنا كنّا متغابين أو لعلّنا أغبياء كثيرا أو قليلا..

تحوّلنا إلى كائنات تلفزيّة بلهاء أمام إعلام مارس كلّ اشكال الدّجل والشّعوذة الفكريّة فغطّى على من يريد وعرّى من يريد وأعلى من يريد وأنزل من يريد وكنّا نبات ونصحو على ما يرتكبه في حقّنا صباحا مساء. وخضنا في كلّ المواضيع إلّا ما يتعلّق بالملفّات الأخطر: ملفّات الأخطبوط الذّي يمسك بأصابعه البلاد والعباد والأموال والأعمال والعيني والنّقدي ويسعى الآن إلى إغلاق ملفّ المحاسبة وتمرير المصالحة كما يريدها هو بكلّ الوسائل: بالهرسلة وبإحداث الشّقوق وبدفع الأموال وشراء الذّمم وبالتّعيينات بالولاءات وبالرّشوة وغيرها..

ومازلنا نخوض في كلّ شيء ونغرق في قطرة ماء: في مواضيع المثليين وجمعية شمس وفي قصّة نجلاء ودخولها إلى حزب النّهضة وفي وضعيّة الرّكوع في الصّلاة وما تثيره في أذهان النساء الرافضات للصّلاة.. نخوض في كلّ شيء إلّا في اهمّ شيء وهو: لم لا يقع التّصريح بالحقيقة وتطبيق القانون وبصرامة على المتهرّبين والفاسدين والمخرّبين لعقول الشّباب وأجسادهم أولئك الذّين يرتكبون جرائم في حقّ البلد كما يجب أن يحدث في دولة ادّعت يوما أنّها هبّت ضدّ الفساد؟ من يكمّم الأفواه إلى هذا الحدّ؟ من يمسك قواعد اللعبة؟ من يمارس التّرهيب؟ لم هذا " الريّ قطرة قطرة " في التّسريبات ؟ لم تقع التّغطية على الفساد والمفدسين؟ ومن المتورّط ومن القاضي؟ هل حاميها حراميها؟

نحن المتغابين أسفله نعلن أنّنا مللنا التّغابي .. لقد استفقنا على أوجاع التّاريخ وعلى وقع حرب الوثائق وقعقعة الأخبار المدوية حول التصدّي لمصادرة أملاك الفاسدين ودويّ الأخبار حول مئات الحقن المختفية من الصّيدلية المركزيّة والتي اكتشفت في أجساد " الإرهابيين " وحول أثرياء جدد صاروا فجأة أصحاب شركات وحول فيلات فخمة تبنى دون رخص يقود أصحابها منطق الهيمنة وقوّة النّفوذ والدّوس على القانون.

إنّه جبل الفساد الذّي يظهر كاملا بعد أن انحسر عنه ماء البحر وتركه عاريا..

ولذلك لن نغرق في قضايا جواز تشييع النّساء عاريات ومتزيّنات لجنازة فنّانة تريد ذلك ولا في جواز مشاركتهنّ الرّجال ردّ التّراب على الميّت ولا في ذلك الممثّل الذّي أعلن عداءه للمثليين وجاهر بافتخاره لانتمائه التجمّعي فصار بطلا ولا في أبطال آخرين وهميين فالبطولة " كذبة عربية " ولا بطل سوى من يبدأ في ميدان الواقع الشّاسع بالتصدّي لأيّ ممارسة شبهة أو فساد يلاحظها فلا يصمت عنها.. وما أكثرها حولنا..

وأيضا لن نغرق، نحن من ندّعي أنّنا حالمون وقادرون على المستحيل ، في فيديو مسرّب عمدا لوزير يتحدّث عن سبخة السيجومي لإقناع مستثمر بطريقة فيها بعض المبالغة والتزيّد بالاستثمار فيها. وهو فيديو تسبّب في هروب المستثمر الذي قطع زيارته وبقاء السّبخة كما هي.. مليئة بالبعوض وبالطّيور الحزينة.. وبقاء مروجي الفيديو ضاحكين من غفلتنا.. وبقاء المستحيل بعيدا عن أن يكون ممكنا تونسيّا.

نحن المتغابين أسفله سنحاول أن نكون بغباء أقل كي لا يظلّ الوطن كما هو إن واصلنا غفلتنا عمّن يوجّه آراءنا ويتحكّم في ردود أفعالنا ويخضعنا كلّ يوم لحكاية جديدة ولسرديّات تتحكّم في استرتيجيات مصير الوطن المجهول.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات