العزلة كالمرض كالصّمت كالموت مصفاة الرّوح. في شرنقة العزلة يعاودك الحنين تدريجيّا إلى صخب العالم الذي فررت منه وتقول: كم العالم جميل! رغم الموت والانكسارات، رغم العسس والمتلصّصين، رغم الأدعياء ومروّجي الأراجيف، ورغم اليومي المفتوح على كلّ الاحتمالات!
في عزلتك تستعذب خيوط الحرير تلفّك والصّمت السّاكن حولك. تنام داخل شرنقتك مغلقا عينيك عن سخف العالم مديرا ظهرك. تلملم جسدك كدودة قزّ. تنطوي كجنين. تحوّم في الرّحم. تكتفي بالحبل السري لتعيش. تفتنك الظّلمة. ترتخي. تتلذّذ خدرك. تذوب في النّوم كقطعة سكّر. لكنّ ملح العالم يلاحقك في الدّاخل فتتململ وتتقلقل وتتبعثر ويرفّ جناحاك لتطير فلا تستطيع. يخذلك جسدك المتعب فلا يتحرّك.
عقلك يفكّر ولا يفكّر. روحك تهيم. تقول: سأظلّ في الظلّ حتّى يأتي الخطّاف والنيروز ثانية. سأظلّ ملتصقة بورقة توت وسأرتاح. سأختبئ في لحاء جذع شجرة عجوز وسأنسى. سأعلق بنتوء غصن في شجرة جاكارندا أزهرت هذا الربيع وسأنام إلى الربيع القادم. لن أكتب. لن أفكّر. لن أتعب. لن أطير.
سأتمدّد داخل عزلتي وأكتفي بالحرير. لكنّ خيوط الحرير على الجسد تضيق بك. يجرحك الحرير. في حرير العزلة ترى خشونة العالم. ترى الدّماء. ترى الأشلاء. في حرير العزلة تصفو الرّوح فترى ما لم تر وسط الصّخب وتقول: كيف احتملت هذا العالم؟ كيف صمدت إلى هذا الحدّ؟ كيف لم أمت؟ كيف صبرت على كلّ هذا الوجع؟ كلّ هذا السّخف؟ كيف احتملت أن أرى الموتى ولم أمت؟ كيف استطعت أمام هذا التوحش ألّا أموت؟ في عزلتك تدرك كم أنت قويّ في هشاشتك وكم أنت هشّ في قوّتك.
ويراودك الحلم ثانية. من اليأس يولد. من أحابيل الموت يولد. من بتلات الجرح يولد. من شرنقة الحرير الجارح يولد. وتقول: لا ليس حلمك بذخا نرجسيّا. إنّه أنت. فإمّا أن يكون أو لا تكون
في لحظة تتمدّد جناحاك وتنقطع خيوط الحرير وتنفلت من شرنقتك فراشة تغادر عزلتها. بتعب المسافر تغادر. بحلم الطيّبين تغادر. بوهن المعتلّين تغادر. أجنحتك مرهقة لكنّك تطير.