ماذا بقي للرواية؟

Photo

ألم يحن الوقت كي نعيد التّفكير في الرّواية بعد أن فاق خيال الواقع خيال الرّواية جنونا وعبثا ورعبا؟ فماذا بقي للرّواية إذا كانت روايات أغاتا كريستي صارت تبدو ساذجة ومضحكة أمام حجم الرّعب اليومي الذّي نعيش؟ انتهى زمن رواية الرّعب وسينما الرّعب بعد أن صار الرعب خبزنا اليوميّ وبعد أن صرنا نفطر على أخبار تفوق في رعبها روايات فرانكشتاين لماري شيلي وكارميلا لشريدان لي التي جعلت من قصص الأشباح كوابيس تخترق أحلامنا زمنا بل لم يعد كتاب الموتى: العزيف ( النيكرونوميكون ) يثير فينا الخوف وهو الكتاب العربي الأكثر رعبا وينسب للشّاعر اليمني الحظرد الذّي عاش في بداية القرن الثّاني للهجرة والذّي يروي عنه ابن كلّخان المؤرّخ في تداخل عجيب بين التّاريخ والخرافة بأنّه مات على يد كائن مخيف عملاق كان يتقاتل معه.

كتاب الموتى المرعب للحظرد دفع الكاتب الأمريكي الشّهير لوفكرافت المختصّ في قصص الرّعب إلى توظيفه في أعماله الفنيّة مستفيدا من تراث الرّعب العربيّ الكامن في هذا الكتاب حيث يستنطق الحظرد الجثث ويمارس تحضير الأرواح ويتحدّث عن كائنات سكنت الأرض قبل البشر وسوف يعودون يوما ليستردّوا الأرض.

كلّ هذه الحكايات التي وظّفها الكتّاب عالميّا لزمن طويل لإثارة المتلقّي لم تعد تهزّنا أمام سرياليّة واقع صار يفاجئنا كلّ يوم بأعتى روايات الرّعب التي نجهل كتّابها الأشباح لكنّها تزعزع طمأنينتنا وتدفعنا إلى ضفّة الحزن وحافة البكاء.

فهل هناك خيال روائيّ قادر على نسج حكاية في قوّة الفاجعة التي نعيشها هذه الأيّام. حكاية العميد التّونسيّ طبيب الأطفال بالمستشفى العسكري الذّي توفّي ( رحمه الله ) في الانفجار الانتحاري بمطار أتاتيرك باسطمبول التي قصدها ( كما روّج لذلك كثيرون عن قصد أو غير قصد ) لاسترجاع ابنه الذي التحق بتنظيم داعش. قلب الأب كان يسرع لإنقاذ ابنه الذّي استنجد به من الموت الدّاعشي الذي تورّط فيه ولم يكن يدري أنّه يسرع نحو الموت الدّاعشي الذي أراد إنقاذ ابنه منه.

هو العبث في عالم فقد عقله وصار الموت فيه أقرب إلينا من أنوفنا. أو لعلّه طوال تاريخنا البشري كان الموت أقرب إلينا من أنوفنا ولكن لم تكن أخباره تتناقل بهذه السّرعة العجيبة التي تجعل الأرض تتحرّك تحتنا بسرعة فيصيبنا الدّوار من فرط الدّوران ولم تكن القيم والعلاقات تسمح بالنّفاذ إلى ما هو خاصّ وحميميّ فيظلّ لغز الموت مغلقا وتأثيره على النّفس أقل. أمّا وقد تعولم الموت فسنظلّ محكومين بإيقاعه في حياتنا مسكونين برعب الوجود في عالم مسّه الخبل منذ ترك اللّه والشّعر والفلسفة وحوّل الدّين إلى قناع للجريمة والتوحش.

ماذا بقي للرواية وقد صارت الرّوايات ملقاة على قارعة الطّريق نتعثّر فيها صباحا مساء وكلّ يتفنّن بالزّيادة والنّقصان وكلّ رواية أكثر مأساويّة من الأخرى وأكثر وجعا وأكثر تخييلا وعجائبيّة؟ فمن الكاتب؟ من الكاتب؟ هل هم شيوخ النّفط أم تجّار السّلاح أم تنظيمات المخابرات أم المسؤول الكبير؟ هل هم الحكّام أم هي الشّعوب؟

من هذا الإله الخفيّ الذّي يصوغ سرديّاتنا اليوميّة بحبكة تفوق حبكة كبار الكتّاب فترجّنا وتهزّنا وتدفعنا إلى التّفكير المرعب في المصير المشترك إذا بقي الوضع وتمدّد؟

ماذا بقي للرّواية؟ ماذا؟

قد يكون بقي لها أن تلتقط ما يقع على أرصفة حياتنا المليئة بالحفر لتصوغ من سرديّات الموت سرديّات الحياة ولتحارب صنّاع العدم بصنع الرّجاء وتاريخ الكذب بتاريخ الحقيقة..

ليس للرواية الفنيّة أن تكون اجترارا لخراب الواقع بل بناء لبهاء الآتي. وليس لها أن تكون تلذّذا بالموت فنفتن به ونتفنّن فيه وليس لها أن تكون أدب رثاء وبكاء وفناء بل أدب حياة وبقاء..

نحتاج صنّاعا للمعنى وقد فقد المعنى بعد أن تحالف ضدّه الجميع لإنتاج اللّامعنى.

للرواية أن تقود الواقع بعد أن انفلت منها وتجاوزها فجرت وراءه منهكة قاصرة. وعلى النصّ أن يكون كبيرا ليواجه ما يكتب بالسّلاح والدّماء..

لعلّه يوما ما داخل هندسة الخراب المتقنة تزهر الزّنابق وتضوع رائحة الفلّ ليلا رغم السّواد..

Commentaires - تعليقات
أحمد سميعي
07/02/2016 01:00
نص رائع شكلا ومضمونا...ولو أني لست مؤهلا للنقد الأدبي...الا أني أريد ابداء ملاحظة حول خاتمة هذا النص التي تعبر عن رأي سائد ويتردد كثيرا يفيد بأن الرعب السائد و"الخبل" الذي مس العالم يفسر بتحويل الدين الى "قناع للجريمة والتوحش" ... والواقع أن هذا الوضع يفسر باصرار طغاة العالم على اعتماد الجريمة والتوحش لاذلال الشعوب واجبارها على التخلي عن الله والدين والشعر والفلسفة...