يرحلون دون تفكير وبيأس الإنسان المهدور من قسوة اليابسة إلى رخاوة الماء لأنّ عبقريّة الدّولة أنتجت شبابا مدمّرا يلقي بنفسه في البحر للنّجاة من دولة الفساد والتفاوت المجحف والإحساس العميق بالحقرة والقهر..
وعبقريّة الدّولة بلامبالاتها وبعدم قدرتها على مواجهة سرّاق الأحلام تنتج شبابا فرمته آلة الطّحن الطبقيّة فيهون عليه وجوده ويدمّر نفسه وقبل ذلك يدمّر غيره في نزعة إلى الانتقام من أقلية تبيع البلاد والعباد وتنهب منه حقّه في العيش وتتركه للعدم ثمّ تلاحقه باشهارات الاستهلاك المغوية فتطبق عليه الحصار ويشتدّ الخناق فيسرع نحو البحر بعد أن يئس من اليابسة اليابسة يطلب في ليونة الماء الليّن أملا للهرب من صلابة الواقع وقسوته عليه ولكنّ الماء يغدر به كما غدر به الوطن الطّين فيبتلعه وفي صراعه مع اللجّة قد يعي أنّه ارتكب الخطأ الجسيم بالهرب من الجحيم إلى الجحيم ولكنّ سمك القرش سيكون آنذاك بانتظاره ليأكل لحمه الرّخيص بعد أن امتصّته أسماك القرش من البشر على اليابسة..
وهو يغرق في الماء قد لا يشعره بالنّدم سوى وجه أمّه.. وحدها أبقت الخيط الضّوئيّ بين قلبها وقلبه بعد أن قامت القطيعة الكاملة بينه وبين السّلطة والمجتمع سدّا منيعا ضدّ أيّ إمكان للتّراجع والنّدم.. لقد فقد الشّعور بالانتماء إلى مؤسّسات الدّولة التي تقصيه خارجها ولم يبق له سوى قلب الأمّ. يعرف أنّها وحدها ستبكيه في نشيج مكتوم..
هو لم يجد لا في المدرسة ولا في الشّارع ولا في الكليّة ولا في الإعلام ولا في الأحزاب الدّور الذي يريد أن يقوم به. اهتزّت ثقته في كلّ شيء وهو يعاين تجليات فساد دبّ في كلّ مؤسّسات الدّولة كالسّوس في الأخشاب القديمة ويعاين معارك الفاسدين وحروبهم حول غنائم وثروات محتكرة من أقليّة ولم يجد حصانة من قيم وأدوات وعي وفهم للواقع وثقافة مقاومة تعمّق فيه الرّغبة في تغيير الواقع المتيبّس كصخر فكان الاندفاع التّراجيدي نحو قاع البحر تقودها نزعة مجنونة إلى تدمير الذّات ولم يجد في المقدّس الخلاص بعد أن شوّهه بعض النّاطقين به وحوّلوه إلى جحيم آخر وبعد أن عاين مهادنة بعض من يمثّلون الدّين للفاسدين فكفروا بهم وبدينهم وكان النّكوص والارتداد نحو التطرّف الأعمى والرّغبة في القضاء على من في اليابسة بعدما عجز عن أن يجد موطئ قدم فيها. لقد أوجدوا دينا خاصّا بهم. دينا حارقا ديدنه القتل دون رحمة..
فما الذّي يمنعه من القتل بعد أن قتلت روحه آلاف المرّات مرورا بكلّ مؤسّسات الدّولة الاجتماعية والتربويّة والسياسيّة والثّقافيّة والدّينيّة والإعلاميّة؟ مؤسّسات تفنّنت في تحويل الإنسان إلى ذات كارهة لذاتها وكارهة لوطنها وكارهة لثقافتها وكارهة لدينها فتفرّ الذّات من ذاتها وتقفز من حريق الكراهية على اليابسة إلى سطح الماء البارد في المتوسّط علّها تطفئ حريقها ولكنّ الحريق يمتدّ في الماء لتصبح " الحرقة " عبر الماء احتراقا أخر.
بين اليابسة والماء يتجلّى حجم التيه الذّي يعيشه الشّباب. ليست المعضلة تونسيّة محضة ولكنّها تتضخّم لدينا لتصبح موجعة. فهؤلاء لا يطلبون سوى حقّهم في قطعة من السّماء يمضغونها ليعيشوا بكرامة. وبين اليابسة والماء لا يجدون السّماء. لا برّ ولا بحر ولا سماء. بل يباب وخراب وخواء. وفي الخواء يتحوّل الإنسان إلى وحش حزين يأكل نفسه بعد أكل الآخرين.
وما لم تع الدّولة العبقريّة الغارقة في دوائر الفساد ومنطق العائلات وصراع المصالح أنّ الأمر صار كارثيّا فإنّ الطّوفان سيحمل الجميع. لدينا طائفة من الشباب لا تملك سلاح الوعي ولا المعرفة المقاومة المعقلنة وهي قادرة على الفتك بالآخرين وبنفسها بعد أن فقدت الشّعور بقيمتها في الوجود وتساوى لديها الموت والحياة.. واليابسة والماء.