لا أريد أن أدخل في سجال أو جدال مع أحد حول موضوع عبد الناصر ،
ولكن ليكن واضحا فقط ، أنه " من كان يعبد محمّدا فإنّ محمّدا قد مات ! "
هذه الجملة قيلت قبل 1400 سنة ، ومازال لدينا إلى اليوم من يعتقد أنّ هناك قداسات فوق وجه الأرض ، أو تحته ، محرّمة على النّقد و التّقييم والمحاكمة التّاريخيّة ...
نعم التّاريخ لا يكبر أمامه زعيم ولا قائد و لا نصف إله صنعته البروباجاندا والدّعايات الرّسميّة والايديولوجيّة في عصور سيطرة الدّولة المطلقة على وسائل الإعلام المحدودة آنذاك : راديو ، تليفزيون رسميّ وحيد ، و جرائد …
نقد عبد الناصر ليس تهجّما على القوميّة العربيّة كفكرة ولا كنظريّة ، وليس استعداء لهذا الفصيل أو ذاك ، إلاّ بقدر ما هو عاجز عن التّفريق بين أشخاص حكّام مارسوا وأخطؤوا وأجرموا ، وبين نظريّة ، مازالت كغيرها تبحث عن فرسان يجسّدون مبادئها إلى مواقف وممارسات على الميدان …
بعض النّاس ، يحاولون دائما أن يصوّروا الأمر على أنّه مشكلة بين عبد الناصر والإخوان ... مثلهم تماما ، كمثل أولئك الّذين يصوّرون الصراع الدّائر اليوم في مصر على أنّه صراع بين العسكر و الإخوان ، أو من يسمّونهم أنصار مرسي ، تماما كما صوّروا صراع التّسعينات على أنّه صراع بين بن علي والإخوانجيّة ، وهم أنفسهم وبنفس المنطق ، من يصوّرون الصّراع في تركيا اليوم ، على أنّه صراع بين أردوغان والإخوان ضدّ فئة من الجيش ...
لا يا سيدي ... الصراع كان بين عبد النّاصر وجزء كبير من الشعب المصري الرافض للاستبداد والتائق للحرية ، مثلما هو اليوم بين العسكر المنقلب وجزء كبير من أنصار الشرعية وقوى الثورة الرافضة للانقلاب بمختلف حساسيّاتهم ، مثلما كان في التّسعينات صراعا بين بن علي والشّعب التونسيّ المتمسّك بحرّيّته ، مثلما هو الصراع التركي بين قوى انقلابية تعمل لصالح أجندات معلومة ، وبين الدولة الديموقراطية والشعب التّركيّ ...
اختصار الأمر في ثنائيّة النّظام والإخوان ، هو من ترويجات النظم الاستبداديّة نفسها ، لتصوّر الأمر على أنه صراع لا علاقة له بالدّيموقراطية والحرّيّات وحقوق المواطنة ، وإنّما هوضدّ حركات بعينها لها أجنداتها اللاّوطنيّة ..
وإذا كان الإخوان ، على الدّوام في طليعة هذه المعارك ، و كانوا هم الكتلة الأكبر الظّاهرة في لوحة الصّراع ، فهذا لا يجب أن يحجب عنّا طبيعة الصّراع ، و يجعل الإخوان مدانين أصالة ، بل كان من المفروض أن يمثّل ذلك اعترافا لهم بانخراطهم الدائم في مقاومة الاستبداد في مختلف تلك المعارك وفي مختلف المراحل…
عندما نتحدث عن الوقائع ، يجب أن يكون مدار النقاش هو تلك الوقائع تحديدا ، نصدقها أو نكذّبها أو نختلف في تحليلها و تأويلها ، لا أن نهرب بالموضوع إلى نقاط أخرى ووقائع مستحدثة جانبيّة تعوّم الموضوع الأصليّ وتنقل النقاش إلى مناطق أخرى لا علاقة لها بالمنطلق …
المفروض أنّ ثورات التّحرّر التي تعيشها شعوبنا ، أوّل ما تضعه على المحكّ هو كلّ تلك المسلّمات القديمة التي توارثناها عن أجهزة الدولة و عرّابيها وبيروقراطيّيها ، و مثقّفي البلاطات والمخابرات …
من هنا نبدأ ، من نقد الأسس النّظريّة للاستبداد ، و المغالطات التاريخيّة الكبرى ، التي زيّنت الاستبداد و قدّمته للشّعوب على أنّه حركات تحرّر وبناء وطنيّ و ادّعت لنفسها طهارة ثوريّة لا يجوز وضعها محلّ الشكّ أو الاستفهام…
أن تنقد نقدا مزدوجا ، يعرّي الجميع و يحدّد المسؤوليّات ، فذاك من صميم جهد المثقّف النوعيّ ، ولكن أن نعتقد أنّ أخطاء فلان تصلح تبريرا لأخطاء زيدان ، فذاك ما لا يستقيم منهجا ولا أسلوبا
التّشنّج في الرّدّ على من يستهدف شخصية عبد الناصر أو بورقيبة أو صدام حسين بالنّقد ، وحتّى بالتّجريم إذا لزم الأمر ، لا يعبّر إلاّ عن حالة من الاستسلام الكلّي لمكوّنات سابقة في الشّخصيّة ، و موروثات ثقافيّة تستعصي عن المراجعة أو عن الخلخلة والاختبار …
أقول هذا ولا أزايد على أحد..
ولكنّني بمثل ذلك لا أقبل أن يزايد عليّ أحد ...
أنا مستعدّ لأن أقبل دروسا من أيّ إنسان ، مهما كان لونه أو صفته أو انتماؤه ، أو حتّى مستواه ، بشرط أن يحترم عقلي ويتعامل معه كعقل مدبّر ، لا كاسطوانة فارغة يحشوها بما يشاء …
وأرجو أن لا يفسد الودّ للاختلاف قضيّة ! فهذا أهمّ في نظري من أن يفسد الاختلاف للودّ قضيّة.