تنظر الممثلة القديرة محسنة توفيق الى علي البدري في مسلسل “ليالي الحلمية” وتقول في لهجة حزينة جدا ” يا عيني عليه، فتح عينيه على صورة عبدالناصر وصوت عبدالحليم”، علي البدري يمثل شخصية المناضل المهزوم في مرحلة الانفتاح، لكنه ممتلئ بإرثه الناصري.
هناك جيل عربي من المثقفين مازال يحمل إرث عبدالناصر وصوت عبدالحليم حافظ. كان عبدالناصر، ذلك العصر، ممثلا للحلم العربي، الاستقلال عن الاستعمار الذي لم يمض على رحيله زمن طويل، معاديا لإسرائيل، مدافعا عن وحدة العرب وتضامنهم وفق خطاب تلك الأيام الذي يتحدث عن عرب الرجعية وعرب التقدمية، عبدالناصر المعبر عن الفلاحين والعمال والشعب عموما، المدافع عن الاشتراكية، عبدالناصر هذا حتى في ظل هزيمته حرب عام 1967 ظل أمل الملايين من الناس، من الصعب على مثقفي الجيل الذي عاش الناصرية بكل آمالها وتجذرت في وجدانه أن يتحرر من الحلم الناصري. الحلم الذي مازال حتى الآن حلما.
وفي الوقت نفسه كان عبدالحليم بصوته وألحان موسيقييه وكلمات شعرائه المعبر الفني عن رومانسية تلك المرحلة، سواء الرومانسية الثورية الفنية بصورة الأغنية السياسية، أو الحب الرومانسي المعبر عن العشق والدموع والقلب المهجور إلخ.
أجل لقد عاش جيل ذلك العهد من الناس والمثقفين والذي مازال جزء كبير منه باقيا على قيد الحياة مرحلة الوعي الرومانسي بالعالم، الوعي الذي ينظر إلى مستقبل زاهر، إلى الحلم العربي الذي رسمه عبدالناصر وعبر عنه بالأغنية عبدالحليم.
لا شك عندي أن بعض مثقفي المرحلة الرومانسية الذين مازالوا متمسكين برومانسيتهم على قدر كبير من النزاهة الأخلاقية والصدق، لكنهم لم يطوروا أدوات تفكيرهم، ومفاهيمهم المطابقة لمرحلة مختلفة كل الاختلاف عن المرحلة الناصرية.
ومازالت صورة المستبد البطل مطبوعة على قلوبهم وأذهانهم، حتى عند أولئك الذين راحوا يتحدثون عن الديمقراطية نظاما للحكم المنشود.
ولكن ما يحزن المرء حقا أن يجد فئة من المثقفين والسياسيين تعلن انتماءها للناصرية ولكنها تقف ضد ثورات الربيع العربي بحجج واهية، وتنظر إلى إيران على أنها قبلتها، وتشيد بحزب الله رغم ما يرتكبه من مجازر بحق السوريين، وتزور، مؤيدة، الجماعة الحاكمة في دمشق، مشيدة بالميليشيات الطائفية. سوريا التي زهق الدكتاتور فيها أرواح مئات الآلاف من الذين ثاروا من أجل الحرية والكرامة الإنسانية.
لقد ماتت الرومانسية الثورية وثقافتها الفنية والجمالية عند هؤلاء، ليحل محلها عقل بليد وقلب جاف، وثقافة سياسية فقيرة، وروح بلا أحلام.
ترى ماذا يعني أن تكون ناصريا وتهزك أغنية “صورة صورة ” لعبدالحليم وتكون فاقدا في الوقت نفسه للإحساس بآلام الملايين المعذبين الحالمين بعالم من الحرية؟
ماذا يعني أن تكون منتميا إلى رومانسية ثورية وأنت غارق في وحل الميليشيات الطائفية المدمرة للانتماء الوطني والقومي العربي؟ أجل ماذا يعني هذا؟