صار الحديث عن الفساد خبزا يوميّا إلى حدّ أنّا صرنا نخشى أن نأكل الخبز فنجده سمّا زعافا. عمّ الشّعور بفساد كلّ شيء: الماء والهواء والطبّ والدّواء والأرض والسّماء وصار الوطن مستنقعا وصار الجميع يسعى إلى ركوب سفينة نوح باحثا عن موطئ قدم في أرض أخرى لاعنا الثّورة والثوّار متحسّرا على أطلال الدّيار. وكثر لدى " مثقّفي زمانهم " لعن ما يسمّونه استهجانا " ثورة البرويطة " وصارت السّخرية منها جهرا بعد أن صمتوا زمنا ليكشفوا مدى هشاشة وانتهازيّة " نخبة " ظلّت يتيمة ولم يكن لها من دور سوى إيقاف إيقاع القصيدة وتشويه صورها والتّهافت في المقابل على المناصب والامتيازات.
تضخّم خطاب الفساد لا يخلو من وجهين متلازمين: فهو يكشف من ناحية حجم حريّة التعبير ( الحقيقية أو الموهومة ) التي نتمتّع بها وتتيح لنا أن نبوح بكلّ مخاوفنا وهواجسنا وخيباتنا في وطن أردناه ونريده جنّة. لكنّ تضخّم خطاب الفساد قد يصبح استراتيجيا في لعبة الصّراع الدّاخلي بين المجموعات المتصارعة على وطن يغرق وقد نصبح نحن مجرّد طرائد في مصيدة " حريّة التّعبير " التي قد تتحوّل إلى مجرّد هذيان لا يبنى على وقائع ومعطيات ثابتة فنصير جزءا من لعبة لم نختر المشاركة فيها لنخدم دون إرادة طرفا دون آخر.
تضخّم خطاب الفساد بعد الثورة يقصد به البعض ربط الفساد بالثّورة وتعطيل الأذهان عن فساد كان سابقا للثّورة وهو فساد كان محتكرا ومنظّما وقويّا ومحجّبا بمنظومة إعلاميّة كاملة حيث تقوم وكالة الاتّصال الخارجي بالتّغطية عليه عبر تجميل الصّورة ونحت ألقها.
ولعلّ خلخلة هذه المنظومة بعد الثورة عبر بعض القنوات وعبر الإعلام الموازي وهو إعلام أكثر جرأة ( إعلام الفايسبوك مثلا ) جعل الحديث عن الفساد يخرج من الخفاء إلى التجلي ليصبح الحديث اليومي للتونسي. وهو حديث بقدر ما يحرّر الألسنة إلّا أنّه يملأ القلوب الواجفة خوفا من سلطة " المافيات " في البلاد وهي " مافيات " انفجرت إلى بؤر صغيرة وعمّت كلّ القطاعات وكلّ الشّرائح ولم تنج منها بقعة في الوطن.
ما يعمّق الخوف منها أنّها تفتقد إلى الأخلاق والضّمير وقادرة على أن تهدّد الإنسان في وجوده: في صحّته وفي غذائه ومائه وفي عقله ووعيه. وما يعمّق الخوف منها أيضا أنّ الكل يتحدّث عنها ولا يسميها فإذا هي جسم هلاميّ أو كائن زئبقي لا يمكن الإمساك به أو يعتقد دائما أنّه لا يمكن الإمساك به في دولة هّشة بمؤسّسات قضائيّة وإداريّة هشّة لا سلطة فيها للقانون ولا يعاقب فيها من يخترقه ولا تجرؤ فيها أعلى مؤسّسات الدّولة على فتح الملفّات الكبرى بجديّة ولا على مواجهة " الأخطبوط " الذي يمسك بها ويعتصرها بكلّ أصابعه ليتركها مشلولة الإرادة عاجزة عن كلّ قرار.
و تضخيم خطاب الفساد وتعويمه استراتيجيا تهدف إلى تعميم الشّعور بالعجز أمام " مافيات " لم تصل في الحقيقة إلى مراتب المافيات الكبرى ولكنّ الصّمت الإرادي إزاءها ولجوء بعض السياسيين إليها لكسب الدّعم وتوظيفها لتحقيق غايات سياسيّة أنانيّة وضيّقة وتعمّد تفجير بعض القضايا وجعلها عناوين كبرى خدمة لمسار معيّن يجعل من هذا الخطاب جزءا من لعبة كبرى غايتها ضمان بقاء هذه الشّبكات وضمان مصالحها وضمان مشاركتها بطريقة غير مباشرة في الحكم لتأبيد هيمنتها ولتعطيل وتعطيب كلّ حراك ثوريّ حقيقي يمكن أن يغيّر مصير البلاد تغييرا جذريّا وحقيقيّا ويرسم أفقا جديدا لحياة انتظرناها طويلا.
فهم طبيعة هذا الجسم الهلامي الزّئبقي المسمّى " مافيا " اليوم يمكن أن يحرّرنا من الخوف المعيق ومن الشّعور بالعجز أمامها الذّي نقرؤه في خطاب التونسي اليومي. التونسي الذّي عاد إلى " الزّجاجة " ليقيم بها بعيد عن " همّ " السياسة وهمّ " المافيات " والذّي عاد إلى ثقافة " تدبير الراس " لحلّ مشاكله الخاصّة وسط واقع ذرائعيّ نفعيّ السّلطة فيه لا للقانون بل لمن هم فوق القانون.
تحرير الإنسان من الخوف وتوسيع بقعة الضّوء داخله لا يكون بخطاب الطّرق صباحا مساء عن الفساد بل بإيجاد استراتيجيا مضادّة للفساد وبنشر ثقافة مقاومة الفساد بدل الانخراط فيه باسم استحالة القضاء عليه أو الاكتفاء بالنّدب والعويل في وطن صار أشبه بالجحيم.
استراتيجية مقاومة الفساد يجب أن يقودها المعنيون بتطبيق القانون في البلاد أوّلا. ولكن أيضا المواطن الذّي يؤمن بأنّه مواطن وليس مجرّد شيء أو أداة لتركيم الأرباح لدى مافيات كلّ همّها الرّبح غير المشروع وتفتقد إلى أهمّ ما يمكن أن يجعل الإنسان إنسانا: الأخلاق والقيم الإنسانيّة.
ثقافة مقاومة الفساد في تجلياته المختلفة ومستوياته المتعدّدة وتشعّباته وتفرّعاته المعقّدة هي الثّقافة التي نحتاجها وهي الكفيلة بمحاصرته تدريجيّا. محاصرة بحيرة الفساد السّوداء من أجل أن تتّسع بقعة الضّوء داخل التّونسي اليائس والمحاصر والمهزوم.