هناك رهط من "المسقّفين"، أو لنقل بالأحرى "زنس" من المسقّفين (مفرد زنوس) ليس هناك أثقل من الحديث معهم إلاّ الاستماع إليهم.
في ظرف 5 دق يقصفك بعشرة أسماء لفلاسفة ومفكرين ألمان وروس وشعراء هندوس وايرانيين وروائيين إسبان وطاجيك واسكنديناف، ثمّ يختم بما قاله بوذا أو يسوع أو زارادشت في الموضوع الفلاني، لكي تبقى بعدها مذهولا مزبهلاّ لسانك يتدلّى كحبل السقاية في البئر السّحيق .
بين قوسين، هؤلاء لن يستشهدوا أبدا بما قاله الله تعالى ، أو بالحديث الشريف، لا علينا…
إذا طرح حديث عن الرواية، سيبادر أحدهم إلى أنّ الرواية الأمريكولاتينية هي التي تعبر أكثر من غيرها عن واقع اللاواقع، فيحتجّ آخر بأن الرواية اليابانية قد قطعت أشواطا أبعد في ذلك ، ويصرّ ثالث على أن الرواية الفيليبينية هي الأسبق في هذا المجال ، وإن كانت تنافسها الرواية الماليزية والأسترالية الشرقية والانجلوسكسونية في ذلك ..
تتحدث عن هموم الشعر وقضاياه، فإذا بأحدهم يحدثك عن قصيدة الهايكو ، والأخر يستشهد بالأبيات كذا للشاعر الأهوازي الإيراني " المعروف " ... والآخر يعتبر أن قمة الشعرية هو ما يكتبه جعفريس تاكفاريس من اليونان ( هذا اسم من عندي ، تمشيشي تجدّ عليكم ) ، ويردف آخر بأنّ هناك شعراء جيدون من منطقة القوقاز والقرن الافريقي ، ويجب الانتباه لما يكتبون ، فيجيبه الاخر بإيماءة وقورة من رأسه …
تتحدث عن ظاهرة اجتماعية معينة نعيشها ، فيحيلك مباشرة على ما حدث في حضارة الانكا والأزتيك، و الصراع بين الهوتو والتوتسي والجذور الطبقية لرقصة الفلامينكو الاسباني وموسيقى الأناضول التركية
الغريب في الأمر أنّه، في كثير من الأحيان، الموضوع لا يحتاج أصلا إلى تلك الاستشهادات وإلى تلك الأسماء الطنانة الرنانة للإقناع، أحيانا يكون رأيك الشخصيّ كافيا جدا ومقنعا وزيادة ، وإذا أردت الزيادة، فقد لا تحتاج في الموضوع إلى أكثر من رأي خالتك صالحة أو خليفة الأقرع ...
يتحدث مثلا عن دور المثقف في المجتمع، فيقصفك على الفور بما قاله سارتر وادغار موران وفوكو وهيجل و ماركس و "برايتنر " و" رومينيغه " دفعة واحدة ، ليقول فقط إنّ دوره تغيير المجتمع .
وفي الكثير من الأحيان ، لا تكون تلك الترسانة المحفوظة من الأسماء، إلاّ ما حفظه عن ظهر قلب من برنامج الفلسفة للباكالوريا ، ولا يعرف صاحبنا أنّ أولئك قد تجاوزهم الزمن ، وأنّ هناك صبيانا فلاسفة جدد، صاروا يلعبون برؤوسهم الفارغة الكرة في أوقات الفراغ .
الأغرب والأعجب، أنّ بعضهم ، أحيانا ينسب بعض ما يقول هو شخصيا في تلك اللحظة، إلى فيلسوف من الفلاسفة أو أحد المفكرين ليغلق أمامك كل أبواب النقاش .. ستناقش من؟ هل ستناقش هايدغار مثلا أو هيغل أو سبينوزا؟
ثمّ كيف لك أن تعرف ، وإذا عرفت، كيف لك أن تثبت له في تلك اللحظة ، أنّ ذلك الفيلسوف الكلب لم يقل ما يقوله الان؟ هو يعرف أنّك لن تقوم في تلك اللحظة بالبحث في غوغل عن صحة ما يدعي، وليس لديك الوقت لتعود إلى الكتب لتقلب صفحاتها ، وأنك لست سهما ضوئيا خارقا ، لتنطلق بسرعة اللازمن إلى قبر ذلك الفيلسوف فتخرج رأسه بلقطة ساسوكيّة حاسمة وتسأله : هل صحيح أنك قلت هذا ؟ فيجيبك : لا لم أقل ، إنّ ذلك الكلب الأجرب يتبلّى عليّ .
يذكرني هذا بتلميذ في الباكالوريا ، تحصل في مادة التفكير الإسلامي على 18 من عشرين. سألته كيف استطاع ذلك؟ فقال لي : لقد أكثرت من استعمال الشواهد والمدعمات، كلها آيات وأحاديث موضوعة ، وضعتها أنا وأنا أحرر الموضوع، كلما تأتيني فكرة ، أضع لها حديثا أو آية ، وأختم بــ " أفلا يعقلون ، أفلا يتقون .." ، وكان شابا متدينا ، سألني بعدها منزعجا : ترى هل سيغفر الله لي؟ فقلت له : هل كنت تكتب بعدها صدق الله العظيم ؟ فقال نعم ، قلت له : إذن سوف يغفر لك ، لا تقلق ولا تشك في ذلك ، أنت والأستاذ الذي أصلح لك الامتحان ... سيغفر لكما على طول الخط.
هذا النوع من الناس ، لا هم لهم سوى ثقافة الأسماء والعناوين، يحفظونها عن ظهر قلب، وأحيانا يحفظون تواريخ المحاضرة التي ألقاها فلان الفولاني ، في جامعة كذا ، وقال فيها تلك القولة الشهيرة ( طبعا لن يقوم أحد بالتحقق من صدق ما يقولون) ، يمارسون أسلوب الصدمة والترويع على من يناقشهم أو يستمع إليهم ، يحدثونك عن التركيبية والبنيوية والتكعيبية والتشكيبية ، وأنت تحدّثهم عن قيمة العمل بين الناس ومعهم و لأجلهم،…
وكما قال الفيلسوف الهيروغليفي "اللّمبي"،رائد اللّمبويّة الحديثة :
شوفولكم حلّ بقى من الحلول دي تبقوا تحلّوه على راحتكم!