بين النساء والسلطة هنا علاقة عجيبة. فكأنّما هناك سعى إلى الثّأر من وهم الحرمان من السّلطة رغم أنّ السّلطة ما فتئت بيد المرأة على امتداد التاريخ وإن لم تكن هي صاحبتها. فالمرأة لم تغب أبدا عن السّلطة كما يذكر بعض المؤرخين، فقد كان بيدها الحل والعقد وأخذ القرار في أمور كثيرة داخل القصور التي كانت أخبارها شبه مقبورة في غياب وسائل الإعلام الحديثة والوسائط الرمزيّة التي صارت اليوم تفجّر كلّ حادث وحديث وتجعل منه قضيّة رأي عام.
وعلاقة المرأة بالسّلطة في تونس منذ إمساك الزعيم بالسلطة تراوح بين الواقع والمتخيّل، الوجه والقفا. فالصورة توحي بدولة تحديث: نساء القصر الأنيقات بلباسهنّ الراقي والعصريّ يحطن بالزعيم الذّي يلاطفهنّ ويربّت على خدودهنّ الناعمة. لكنّ أحاديث القصر وأسراره كانت تكشف معارك النساء من أجل النّفوذ ولكنّها معارك في ظلّ الزّعيم / الرّجل الذي لم يستطعن تجاوز أبوّته الفكريّة والسياسية.
فكل ما قامت به سعيدة ساسي مثلا من مؤامرات ضدّ وسيلة بورقيبة ( إلى حدّ تطليقها منه كما ذكرت بعض الشهادات ) ومساعيها لإبعاد السيد أحمد بن صالح وانتقامها من السيد محمد مزالي كانت دسائس من أجل تأبيد سلطة الزعيم وكانت في سبيل ذلك تعلن الحرب على الآخرين وتخذلهم في منتصف الطّريق إذا وقفوا إلى جانب خصومها. لقد كانت المرأة التي تحكم دون منصب فدورها كان إضفاء القداسة على زعامة الزعيم الأوحد والأب الأوحد لتونس.
في التسعينات ومع الانقلاب كان حضور النساء في السلطة مريعا تختزل صورته حاكمة قرطاج بعجرفتها وكبرها ونهمها الذي لا يشبع من أجل احتكار الثروة وتوزيعها على عائلتها ورغبتها بدورها في تأبيد بقائها بتأبيد بقاء المخلوع عبر خروقات دستوريّة ومناشدات وخطب تكتب لها وتقرأها لمتلقّ هو في الأغلب جمهور النساء من الأكاديميات والباحثات اللّاتي يفقنها علما ومعرفة بكثير.
لكنّها قوّة السّلطة العمياء التي لا تعترف بسلطة المعرفة. وهي أيضا سلطة المعرفة التي تخضع لسلطة الجهل المقنع. هذه الصورة بكلّ ما تختزله شاعت لتتقمّصها نساء " أمّهات تونس " و " الاتحاد النسائي " فتتحوّل العجرفة والكبر والنّهم إلى ثقافة تشيع بين كثيرات وتزداد رسوخا وتتجلّى في التجاوزات المالية والأخلاقية الكبرى وفي انتشار الابتذال والإسفاف سلوكا شائعا يختفي وراء أقنعة التجميل التي تصنعها وكالة الاتّصال الخارجي لتجميل صورة حاكمة قرطاج وأتباعها..
بعد الثورة تحرّر التونسيون نسبيّا من نساء القصر. فالرئيس " المؤقت " لا تكاد زوجته تظهر للعلن وكان ظهورها محتشما ورصينا في الحملة الانتخابية وكذلك كان ظهور زوجة الرئيس " الدّائم ". ولكنّ أخبار القصر لم تنفكّ تتحدّث عن تدخّلها لصالح ابنها رئيس الحزب الفائز ولصالح رئيس الحكومة الجديد في إعادة إنتاج للقديم ولممارسات سابقة كانت أحد دواعي التداعي والسّقوط.
إعادة إنتاج القديم لا يقتصر على هذا التدخّل الذي يروج ولكنّه يظهر في أبرز تجلياته في استبطان سلوكيّات قديمة ممّن هنّ في السّلطة من وزيرات ونائبات يتصرّفن بعنجهيّة وفي خرق واضح للقوانين وانتهاك لكرامة الإنسان فبرهنّ على أنّهنّ استمرار للقديم في وجهه الذي يحاول أن يكون جميلا وحداثيا كي يخفي مضمونه المتهاوي، وبرهنّ أيضا على عدم وعيهنّ بأنّ هناك ثورة وقعت لغايات وأهداف واضحة أهمّها تحقيق العدالة الاجتماعيّة وكرامة الإنسان وعلويّة القانون الذي يجب أن يطبّق على الجميع.
لقد ظلّت السّلطة لديهنّ استعراضا مشهديّا على طريقة حاكمة قرطاج غايته التسويق للصورة عبر التّجميل والتّزيين. وهو تسويق يخدم مصالح من دفع بهنّ إلى الواجهة السياسيّة رغم عدم جدارة البعض منهنّ وعدم أهليتهنّ ولكنّ الصّورة سرعان ما تتهاوى أمام اختبار صغير لينكشف زيفها وتنكشف معها العنجهيّة والعجرفة المبطنة والتي غابت أوان الانتخابات ليصبح الاستقواء بعدها بالمكانة والمنصب السياسي سبيلا للدوس على الآخر ومعاقبته على تطبيق القانون. ..
هذه العجرفة تحوّلت إلى شبه ثقافة تشيع بين بعض " المتسيسات " والمتحزّبات وهي علاقة بالسلطة مرضيّة لا تزال محكومة بعقدة " الأبوّة " السياسيّة للرجل الزّعيم ( يتعدّد الرّجل الزّعيم هنا بين المسنّ الذي يذكّر ببورقيبة ويسيطر على القلوب بارتداء بدلته وبين " الشاب " الذي " يفتن " بوسامته وبين الشّيخ الذي تهيم به القلوب لسطوته ولا وجود بين هذا وذاك ل " زعيمة تتقدّم وتتصدّر المشهد ) ولا يحكمها ( دون تعميم طبعا ) وعي بمبادئ الحكم الذّي هو فنّ لتسيير الشّان العام يصبح فيه السائس في خدمة المواطن وقدوة في تطبيق القانون واحترام علويّته.
وقد تصبح بعض النّساء داخل بعض الأحزاب التي رفعت لواء الدّفاع عن حريّة المرأة والمساواة التامّة مجرّد بيادق تحرّك أو تنشر فضائحهنّ وتهتك حياتهنّ الخاصّة وتضخّم وتروّج أخبارهنّ لفائدة " الرجل " السياسي الذّي يسعى إلى الاستفادة من الوضع حتّى الرمق الأخير.
المريع أن تتسبب هذه الثقافة المتوارثة والمتغلغلة في أن يحكم تونس رئيس لا يتورّع عن بعض الفلتات التي تراها أنصاره ملاحة ولا عن القيام بإشارات مفضوحة وسط زغردة النساء وبعضهنّ صرن نائبات في ضرب من الجزاء. مليون ونيف هنّ. انتخبنه خوفا على " حريتهنّ ". وها هي الحرية تتحول إلى مصيدة حاذقة تكشف تهافت أطروحات وادّعاءات كثيرة.
الوطن يحتاج سلطة النساء أكثر ممّا يحتاج نساء السّلطة. فنساء السّلطة قد يصبحن مجرّد أدوات تنفيذ أو قطيع مطيع في خدمة الشيخ أو الزعيم وتجربة التناصف تؤكد أنّ بعض من جاءت بهنّ هذه التجربة لم تكن بعضهنّ جديرات بمناصب السلطة بل كنّ مجرّد " كوميديّات " في مسرحيّة الدّيمقراطيّة التي لم تنجح في أن تلامس الصّميم فظلّت تداعب السّطح.
سلطة النساء: نساء الحكمة والمعرفة والتواضع.. نساء التجربة: الصواب والخطأ.. نساء رفض المشاهد الاستعراضيّة والخوف المرضي وهستيريا السّلطة. نساء البحث عن المعنى وعن الفكرة.. نساء الميدان: أمّهات وعاملات ومربيات ومثقّفات… دورهنّ خطير في التّأسيس لبديل أكثر جديّة ونجاعة لما نعيش الآن من " قذارة " الحياة السياسيّة وانحدارها إلى القاع. والمرأة بطبيعتها لعلّها أكثر قدرة على السياسة بمعناها الأصلي أي حسن إدارة الشّأن العام وحسن إدارة الاختلاف بين الجميع . بل هي أقدر على الارتفاع بالسياسة من مهاوي القذارة والانحطاط التي تردّت فيها.
المرأة التي هي نصف السّماء قادرة على أن تصنع نصف الوطن البديل. النّصف الثّاني يصنعه الرّجل. المتحرّر أيضا من ثقافة القديم وأنساقه المتحكّمة في تفكيره والتي تدفعه بدوره إلى الغرق في مستنقع السياسة العفن..