في الوقت الذّي يقف فيه رئيس الدّولة التونسية ليتحدّث على منبر الأمم المتحدة عن إنجازات الدّولة التونسية الحديثة خلال الستين سنة تروج صورة التّلاميذ الذّين يتمّ نقلهم في شاحنات مكشوفة إلى المدرسة لتضع دولة " الحداثة " في مأزق أمام العالم ولتضع أيضا برامج التّعليم التي تنصّ عليها البرامج الرسميّة والتي ندرّسها في مأزق بدورها. فكيف يمكن لمدرّس يأتي تلامذته في شاحنة مكشوفة كقطيع ماشية وفي وضعيّة محفوفة بالخطر وبإمكانيّة السّقوط في كلّ آونة أن يدرّس تلامذته بيت عنترة العبسيّ: لا تسقني ماء الحياة بدلّة ** بل فاسقني بالعزّ كأس الحنظل؟
فبين الأفق الذّي يرسمه البيت: أفق الكرامة الإنسانيّة الرّافضة للذلّ في كلّ تجلياته وبين الحيّز الذّي يضيق به الواقع: واقع فقدان الكرامة وسقيا " الماء بالذلّة " هوّة تجعل العبث هو الجامع. عنترة العبسيّ يضع الدّولة " الحديثة " في مأزق وهي التي عجزت عن أن توفّر كرامة الإنسان في " بلاد الحدّ الأدنى " حيث يصبح الحدّ الأدنى ترفا غير متوفّر. فما الذّي يمنع تخصيص حافلة للتلاميذ مادامت المليارات قد خصّصت لأشياء أخرى لضمان " هيبة الدّولة الحديثة " كترميم القصور وإعادة تأثيثها والسّفر والإقامة بأفخم النّزل ؟ أليست هيبة الإنسان أيضا من هيبة الدّولة؟ أليست هيبة الأطفال من هيبة الدّولة؟
ما كان لعنترة العبسيّ العبد الأسود أن يطلق بيته في وجه قبيلته فالضّعفاء دائما يحرجون الأقوياء وصورة التّلاميذ حرج آخر للدّولة كحرجها أمام قضايا عالقة لم تجد حلّا لها: قضيّة الشّباب العاطل والانتحار المعطّل للحياة والفساد المعطّل لكلّ شيء. وبيت عنترة حرج آخر " للقبائل السياسيّة الحديثة " التي لم تجد حتّى الآن حلّا لقضيّة الكرامة بعد أن انشغلت عن الإنسان بأزماتها الدّاخليّة ومحاولة المحافظة على بقائها. ففاقد الشّيء لا يعطيه.
مأزق الكرامة الذّي يحرّكه بيت عنترة يزداد تعقّدا مع تعقّد واقع الفقر والظّلم وانحباس الأفق. فكأس الحنظل صار أشدّ مرارة ممّا يمكن تحمّله. وإن استطاع عنترة بالسّيف وبالمرأة أن يبلّ ذاته السّقيمة فكانت الحرب شفاء والحبّ دواء والفرس رفيقا فإنّ إنسان اليوم وسط تداعي القيم وتهاوي المفاهيم وهيمنة البراغماتيّة والذّرائعيّة والأنانيّة صار يخبط خبط عشواء فيلجأ إلى كلّ السبل مستهينا بكرامته وكرامة الآخر.
وصورة الأطفال في الشّاحنة مظهر من مظاهر الاستهانة بالكرامة وهي استهانة أبعد غورا وتتجاوز النقل إلى الفضاءات المدرسيّة التي لا تليق وبالتجهيزات والمخابر والبرامج ويظلّ مشروع الإنسان داخل هؤلاء الأطفال مشروعا مهدّدا محمولا على كلّ إمكانيات التصدّع والتشظّي والانشراخ والانفجار.
ماذا يجدي أن ندرّس اليوم عنترة وماء الحياة بذلّة الذّي يشبه جهنّم وجهنّم التي تصير بالعزّ أطيب منزل مادام التّلاميذ لا يعيشون ما يدرسونه بل يكتشفون دائما الشّرخ القائم بين ما يتعلّمون وما يعيشون؟ نستطيع أن نحشو ذهن التّلميذ بكلّ أنواع القيم الأصيلة ولكنّها تظلّ لديه مجرّد معاني هلاميّة ما لم يعشها في الواقع أو هو الاصطدام الموجع بحقيقة الواقع الذّي قد يفضي إلى اختيار الموت أو أشكال الرّحيل الأخرى حلّا نهائيّا.
عنترة عد إلى عصرك فأبياتك تكشف خلل عصرنا أو هي قيمك التي لا تلائم زماننا وفي كلّ الأحوال فأنت تعيش مأزقا آخر بعد مأزقك مع القبيلة. هو مأزقك مع الدّولة الحديثة التي لم تنجح أيضا في ضمان كرامة الإنسان فاختار البعض الموت دون القسطل. لا غبار معارك لدينا فأغلب معاركنا وهميّة وأمّا معاركنا الحقيقيّة فقد غفلنا عنها ولم نعدّ لها العدّة ولا العتاد.
أمّا مأزقي أنا فهو أن أجد جوابا على أسئلة التّلاميذ الذين يسألون دائما: ما جدوى دراسة شعر عنترة؟ فأحدّثهم بحماس عن القيم الكبرى التي يختزنها هذا الشّعر وعن العزّة والكرامة قبل أن يكتشفوا وهم يخرجون إلى الشّارع أنّ أستاذتهم قد تكون ديناصورا أخيرا من الدّيناصورات التي عاشت في الأزمنة السّحيقة ثمّ انقرضت.