الشابي الذّي لا يهدم

Photo

حين تأسّست " الجمهوريّة الأولى في أواسط الستينات كانت الدّولة تبحث عن رموزها الثقافيّة والفكريّة لتبني صرحها ولم تجد آنذاك أكبر من الطّاهر الحدّاد ومحمود المسعدي وأبو القاسم الشابي أعمدة ثقافيّة لدولة التّحديث التّي أرادتها كما تريد. فقد كانت هذه الأصوات الفكريّة والأدبيّة على اختلافها تجسّد طموح الدّولة الجديدة وفلسفتها القائمة على تحرير إرادة الإنسان ونحت الذّات الفاعلة القادرة على تقرير مصيرها. وهي فلسفة ناجمة عن تشبّع بثقافة الغرب الحديثة فأغلب رجال الدّولة آنذاك درسوا بفرنسا ونهلوا من فلاسفة الأنوار والفكر الحديث بل وأيضا الفكر النيتشوي الذّي يبشّر بالإنسان المحارب الذكيّ والقويّ الذّي يخوض مغامرة الوجود ويواجه الأخطار من أجل منزلة أرقى. وهو الإنسان الذّي أشاد به المسعدي روائيّا وتغنّى به الشابي شعريّا وحرّض عليه بورقيبة خطابيّا في ضرب من التقمّص له إلى درجة الوقوع في تضخّم " الذّات السياسيّة " والتّبشير بالشّخصانيّة كشكل من أشكال الاستبداد.

والمفارقة أنّ الشابي شاعر " الدّولة الحديثة " التي سارت تدريجيّا نحو الاستبداد بقيادة " الديكتاتور المثقف " كما يحلو للبعض أن يسمّيه ثمّ نحو الاستبداد أيضا بقيادة " الدّيكتاتور الجاهل " مثّل دائما صوت الثّورة على الاستبداد في أشكاله الفرديّة و البوليسيّة والعائليّة. فكلّ الاحتجاجات التي تندلع وكلّ الانتفاضات التي اشتعلت كانت تلهبها الشّعلة الكامنة في بيت الشّابي:

إذا الشّعب يوما أراد الحياة *** فلا بدّ أن يستجيب القدر

صار البيت بيت التونسي يقيم داخله ويلجأ إليه ويحتمي به كلّما أصابه الضرّ من الدّولة البوليسيّة وتسلّط الطّغاة وظلم الأقوياء. صار البيت الشعريّ وطنا وصار الوطن قصيدا وصار القصيد الشابي بعد أن توّجته الجماهير المنتفضة وبعد أن غفلت الدّولة عن بيته ( بالمعنى الحقيقي والمجازي ) وصار بيته ( الشّعري ) تعبيرة استعاريّة عن الغضب الشّعبيّ على نظام مركّب من الاستبداد والتبعيّة والفساد وانتقل الشابي من شاعر الدّولة إلى شاعر الشّعب الذّي يريد أن " يكسر قيد " اللّصوصيّة والفساد والاستغلال وليس له سوى إرادته.

لم يجد الشّعب أقدر من بيت الشابي. وكان بيت الشابي كبيرا إلى درجة أنّه تجاوز الحدود لتفيض به القلوب في أرجاء الوطن العربي إبّان الثورات العربية وفي العالم. فكان الاستعارة الأرقى عن الذّات البشريّة في إرادتها وتوقها إلى عالم غير هذا العالم. لقد كان وتر الرّوح وعزف القلوب التي لا ترضى بالثّرى ويحملها الشّوق إلى القمر في السّماء، طائر الألباتروس الذّي يأبى أن تظلّ قدميه عالقة في الأرض فينطلق إلى الفضاء. احتلّ بيت الشابي الشّعوب والقلوب الكبيرة وضاق به قلب الدّولة الصّغير فباعت بيته الحقيقيّ بعد أن " باعت " بعدم احترامها إرادة الشّعب وبقائها في قبضة اللّصوص وسرّاق الأحلام بيته المجازيّ.

بيت الشابي الذّي مسح من الوجود اغتيال للمعنى. الشابي معنى كبير من المعاني في ذاكرة الوطن. ذاكرة ظلّت دائما معطّبة لا تحتفي إلّا بمن يراد الاحتفاء به وممّن يراد إخراجهم من قبورهم ونصب الأصنام لهم رغم إرادة الشّعب. هذا الهدم هو التّعبيرة المثلى عن إفلاس الدّولة ثقافيّا وعجزها عن المحافظة حتّى على رموزها الذّين أرادتهم فمابالك بآخرين ارتقوا بشعريّتهم إلى منازل عليا ولم تعترف بهم؟

لكنّ الشابي الذّي حفر ببيته في ذاكرة التّونسيّ وأقام بوجدانه وسكن شريانه لا يمكن أن يهدم بهدم بيته. فيكفي الشابي بيته ( الشعريّ ) كي لا يهدم. وسيرفع دائما في مظاهرات المحتجين والمنتفضين والثّائرين والحالمين ليزعج ويرجّ ويهزّ ويزلزل. وسينشده الجند على الحدود والأطفال في المدارس والفقراء في الطّرقات الخاوية.

الشابي لا يهدم. الشابي لايزال يبني الرّوح. لا يزال يحلم النّفوس بالثّورة. هكذا هم الشعراء الذّين يقيمون في القلوب ويسكنون الشّعوب.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات