هل استحمّ سامي؟

Photo

صار السّؤال الأهم بعد أن انتشرت الصّورة وتخطّت الوطن إلى بلدان عربيّة أخرى وصار الجميع يبحث عن جواب: هل استحمّ سامي؟ نعم ـ لا. وأدلى كلّ بدلوه في هذه الصّورة التي أدرجت في أحد الكتب المدرسيّة التونسية وتتعلّق بدرس في السّنة الأولى ابتدائي في كتاب الرياضيات يهدف إلى تمييز الفرق بين الداخل ـو الخارج.

ومردّ الجدل أنّ سامي في الصّورة يكتفي بوضع إحدى رجليه في المغطس أمّا باقي جسده فخارج المغطس في حين تسبح بطّته اللعبة في الماء فلا ندري هل هو داخل المغطس أم خارجه؟ وهل ندري هل استحمّ أم لا؟ واتّفق الجميع على الاختلاف فنحن نختلف دائما حتّى حول سامي.

ونام سامي ملء جفونه وسهر الناس جرّاءه واختصموا وخاطب أحد الطّلبة الجامعيين المختصّين في الرّياضيات على المواقع الاجتماعية السيّد وزير التربية طالبا منه جوابا معتذرا عن غبائه فهو لم يوفّق في إيجاد الجواب الذي استعصى عليه وحيّره كما حيّر ألاف الآباء والمعلّمين.

هل سامي في الدّاخل؟ هل هو في الخارج؟ لا أحد وجد الجواب.


• لكن ماذا لو وسّعنا السّؤال وتركنا سامي وشأنه: هل نحن داخل الإصلاح حقّا أم خارجه؟

• وفي مدار أوسع يصبح السّؤال: هل نحن داخل العصر أم خارجه؟

• هل نحن داخل التّاريخ أم خارجه؟

• هل نستحمّ في نهر التّاريخ أم مازلنا على الضفّة نشاهد عبور التّاريخ ساخرا من حيرتنا؟

فما يثير الحيرة ليست الصّورة بل هذا التّعليم على امتداد عقود الذي أنتج عقولا لا تستطيع أن تفكر خارج ثنائيات مضبوطة ومحدّدة كقوالب: داخل / خارج، يسار / يمين، فوق / تحت فإذا خرجنا قليلا عن الإجابة المنتظرة تهنا كما تقول بعض تعاليق الاخوة الشّرقيين السّاخرين من حيرة التّونسيين في حين يمكن للتلميذ أن يجيب ويقدّم تعليلا مقنعا لجوابه وتكون الإجابة انطلاقا ممّا توفّر من معطيات في الصّورة ويمكن أن تكون الإجابتان سليمتين شرط أن يكون التعليل مقنعا وشرط أيضا أن يكون اختيار الصّورة والسّؤال أفضل ممّا عليه الآن في الكتاب المدرسي وفي درس: داخل / خارج الذّي جعل الناس داخلين خارجين يخبطون خبط عشواء.

ولكن ما يزيد في تعميق الحيرة هو أنّ صورة سامي المحيّرة تقاطعت مع أخطاء أخرى لا يمكن قبولها ولو ارتكبها معلّم أمام متفقّد في حصّته سيكون الأمر " فعلا موحشا " بلغة أهل السياسة والقانون في حقّ الصّغار كالرسم الخاطئ لبعض الكلمات أو أخطاء نحويّة مشينة وغيرها.

وهنا يصبح السّؤال على طريقة الكتاب المدرسي: هل نحن داخل مغطس الإصلاح أم خارجه؟ طبعا الإجابة لا بدّ أن تكون أيضا خارج الأجوبة السّريعة الجاهزة: نعم أو لا. فالأمر أعسر من أن نحسمه كما نريد حسم أمر سامي المسكين. وهو يتجاوز القائمين على الإصلاح والمشرفين عليه ليتعلّق برؤية واستراتيجيّة كاملة. فالوزارة كسامي تماما تبدو داخل الإصلاح وخارجه. تضع قدما هنا وقدما هناك. تريد ولكن. في منزلة بين المنزلتين. تسعى إلى أن تستحمّ لتزيل عن التّعليم ما علق به من شوائب طوال عقود غير أنّ المغطس أضيق من أن يشمل كلّ القطاع والماء قليل. المال قليل والإصلاح الحقيقي يحتاج مالا كثيرا ويحتاج دولة تراهن حقا على التّعليم فيصبح احترام المعرفة ومهنة التدريس جزءا من الهوية ورهان التّعليم تحدّيا تاريخيّا يقتضي إعادة بناء الفضاءات والبرامج والمناهج سعيا إلى إعادة بناء الذّات وتحرير ذهن يرى الأمور بيضاء فقط أو سوداء فقط ودون ألوان تلوّن بها الحياة.

ماذا لو راهن التعليم على إعادة بناء الشخصيّة القاعديّة للتونسي؟ شخصيّة مصابة بشروخات عميقة نتيجة عقود طويلة وجدت نفسها خلالها داخل الحداثة وخارجها فإذا هي كيان متصدّع مذبذب يهتزّ في كلّ مناسبة تحت وقع أيّ صدام أو رجّة؟


• ماذا لو راهن على العقل المفكّر والاختلاف الجميل والتعايش المشترك بدل أن يراهن على نزع حجاب امرأة؟ أو نزع آية قرأنيّة؟

• ماذا لو راهن على العقل وعلى مناهج تنمّي روح الابتكار والاختراع؟

• ماذا لو راهن على المساواة بين التلاميذ من أجل حصولهم على فرص تعليم متساوية؟

• ماذا لو راهن على رقيّ الذّائقة ومقاومة الرّداءة بإدراج نصوص جيّدة بدل نصوص ضعيفة مستمدّة من مجلّات أطفال برؤية تجاريّة تجيز استعمال عبارات صادمة؟

• ماذا لو تمّ تبنّي شعار: " لا تترك الطّفل في الخلف " وهو الشّعار الذي اعتمدته المدارس في فلندا لإصلاح أحوال الأطفال المتأخّرين دراسيّا؟ وما أكثرهم لدينا.. وما أكثر المنقطعين منهم..

لكن هل يمكن للتّعليم أن يقوم بهذا الدّور المصيري وهو يعيش التّداعي بأشكاله؟ تداعي البنية والتجهيزات والإرادة السياسية والرّؤية والأخلاق والمفاهيم؟ هل يمكن أن يقوم بهذا الدّور التاريخي وهو خارج التّاريخ ولا يضع سوى رجلا واحدة داخله؟ وخارج المعايير والمواصفات التي تليق بالإنسان؟ وهل يمكن للمدرّس الذي يمكن أن يطعن في كلّ آونة طعنا معنويا أو جسديّا، بسكين الكلمات: " انت كرّاي عند التلامذة " أو بسكين حقيقي أن يقدر على هذه التحديات الكبرى؟

هل لنا ما نستحقّ من التّعليم كما يقول المفكر الكبير المهدي المنجرة؟

أمام هذه الأسئلة يصبح سؤال: هل استحمّ سامي؟ أسهل بكثيرمن هذه الأسئلة السّاخنة والحارقة التي تمنعنا من الغوص الحقيقي في مغطس الإصلاح ويكفي أن نتبنّى جواب أحد المعلقين في المواقع الاجتماعيّة على الصورة واسمه سامي لتزل الحيرة وتكشف الحقيقة المضحكة:

" يا جماعة راني لقيت الماء بارد وزيد الشمبوان ما ثماش بطّلت بحيث ساقي بركة داخل البانو…الله يهدي المشرفين على اصلاح التعليم" محدثكم سامي.

وبعد، نحن كلّنا سامي: نضع قدما في التاريخ وقدما خارجه، قدما في الحداثة وقدما خارجها، قدما في المعرفة وأقداما خارجها؟ إنّها الصّورة الأفضل في كلّ الكتاب.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات