منذ أطلق المتنبي بيته ونحن على قلق لا يغادر. نوجّه راحلة التاريخ يمينا نوجّهها شمالا ولا نصل. ولا نريد في أرض مقاما ولا نزمع عن أرض زوالا. كأنّ الرّيح تحتنا. يسرع العالم بنا فنضطرب ونهرب إلى وثوقياتنا في السياسة والثّقافة والمجتمع نحتمي بها من الزلزال. حين جاءنا الزلزال أبينا عن أرضنا زوالا وخفنا مغامرة التاريخ فلم نجرؤ على تفكيك النظام المعرفيّ ولم نجرؤ خاصّة على إنتاج المعنى الجديد رغم أنّ كلّ ما حدث ويحدث أثناء الثّورات يستدعي إنتاجا للجديد.
جثمت نخبة النّخبة على أنفاس الحركة التاريخيّة لإخماد أنفاسها خوفا من جديد يفاجئهم وتمسّكوا بالقديم يحوّلونه إلى أصنام وإلى قوارب للنّجاة وسط الخضمّ العاصف بهم ووجدوا في خطاب المؤامرة الحلّ أمام الارتباك الذّي احدثته الانفجارات الاجتماعيّة والمخرج من المآزق التي تردّى فيها خطابهم المحافظ على وجودهم والمحافظ على مصالحهم ولم يكن من الهيّن التخلّي عن الامتيازات التي كانت تمنحها الأنظمة المنهارة للنّخبة التي صنعتها فكان الحكم بالقتل على كلّ ثورة تزعزع أركان المصالح والمنافع.
وكان قميص التّحديث أوّل المثيرين ضدّ الثّورة إذ سرعان ما علا النّواح على " الحداثة " التي ستغتالها الثّورات التي جلبت من هم خارج الحداثة إلى داخل الدّولة وفي الأثناء لم يجد من اتّهموا بأنّهم أعداء الحداثة سبيلا للاعتراف بهم غير خلع الجبّة والعمامة والانخراط في سياسة براغماتيّة تستجيب لإملاءات لم تكن قدرا مسلّطا فصارت. وازداد القلق الجماعيّ مع الفشل في وضع المنظومة القديمة في مواجهة التاريخ عارية بعد أن جنّدت الأجهزة والوسائل والأقلام والأصوات والأحداث لعصف ذهنيّ غايته درء الأخطاء التاريخيّة لهذه المنظومة أفضى إلى إعادة إنتاجها في أشكال جديدة مشوّهة.
إخراج القديم الذي لا يريد أن ينصرف إخراجا جديدا مثّل التّعبيرة الأسوأ عن إرادة هيمنة المصالح والمنافع بعيدا عن مطالب العدالة وأزمات الإنسان الذي يواجه الفساد والبطالة ومطامع السّاسة وجشع أصحاب المال وضيق أفق القطاعات الحرّة التي تحوّلت إلى طوائف وتطرّف المتحزّبين والمتأدلجين والمتشيّعين للأفراد والجماعات. ووسط خطاب التّشكيك في الثّورات وإشاعة السّواد وتلوين الحياة بالدم والموت والخراب تعطّب التاريخ وساد الارتباك اللّحظة وأسرعت بنا الريح نحو المجهول لا ندري هل تسير بنا يمينا أوشمالا؟
في لحظات المنازلة الكبرى تراجع الجميع. النّخب رفضت المراجعات الكبرى والشّعب عاد إلى سياسة " الحيط " طلبا للنّجاة وعمّ الشّعور بالإحباط وغرق الكثير في قلق ممضّ وهيمنت فكرة الرّحيل كلّ بطريقته. الرّحيل في المكان الرّحيل في الزّمان الرّحيل فكرا الرّحيل كلمة الرّحيل لذّة الرّحيل عاطفة الرّحيل موتا. كلّنا على قلق كأنّ الريح تحتنا. راحلتنا القلقة تأبى استقرارا ووجودنا صار هجرا وهجرانا وتهجيرا وهاجرة. يكفي أن تنظر المدن العربية كي ترى الريح التي تحمل البشر من أرض إلى أرض ولا مستقرّ.
كيف نفتح الطّريق أمام تجاوز المرتبك؟ أمام المنازلات الكبرى؟ أمام المراجعات الأكبر؟ ألا يحتاج الأمر تجاوز النخبة المحافظة إلى نخبة جديدة تتجاوز الأنساق الفكريّة واللغويّة والمعرفيّة التي تعيد إنتاج القديم فتعمّق الأزمة وتعطّب الحركة المؤسّسة لنظام معرفيّ وسياسيّ واجتماعيّ وثقافيّ جديد جدّته ليست غاية في حدّ ذاتها ما لم تدرك الإنسان في عمقه فتعيد تشكيله ذهنيّا ونفسيّا واجتماعيّا بكيفيّة مغايرة لما هو كائن؟
لعلّنا في زمن يحتاج مراجعات حقيقيّة جريئة. مراجعات عميقة تطال الأنساق الاقتصاديّة المفروضة وأنساق المعرفة المحنّطة ونظام التّعليم المختلّ والتّركيبة الاجتماعيّة المضطربة وشخصيّة الإنسان المهدورة. قد يكون الأمر عسيرا في إطار ما هو مفروض ومسلّط ومملى ولكن قد يحتاج فقط إلى التقاط خيوط الضّوء الملقاة على أرصفة الوطن لنسج النّماذج الاجتماعيّة والاقتصاديّة والثّقافيّة الخاصّة بنا بدل استيرادها بالعملة الصّعبة أو قبولها هبات تخلّف الذلّ والخضوع. التقاط التّجارب النّاجحة التي تصنعها عزائم الرّجال وحكمة النساء وروح الشّباب الذّي تدرّب على الوعي والنّضال ولم يعد يفوته غياب العدالة في توزيع الثروة ولا غياب العدالة الجبائيّة ولا التهرب والتّهريب ولا التّزييف الحاصل ولا شراء الذّمم ولا امتلاك الأقلام والأصوات ولا محنة الرئاسة المتهرّمة ولا صغار بعض النفوس التي تمارس السياسة ويعي أزمة القيم وعجز النّخبة المتأدلجة عن التسامح مع الآخر المختلف ويحسم في أمر الحداثة فلا يراها دون روحانيات محايثة لها ودون أخلاق ودون قيم المعرفة والحريّة والجمال.
هي نخبة جديدة قد تتشكّل يوما وتكون أقلّ قلقا منّا. قد تقطع مع القلق الذي بقينا نتوارثه لأنّها أكثر دراية بالوجهة. لعلّها أكثر معرفة لما تريد: هل تريد شمالا أم يمينا؟ تريد مقاما أم رحيلا؟
لعلّها نخبة غير قادرة على إيقاف الرّيح لكنّها قادرة على صنع الشّراع للتحكّم في وجهة سفن الأماني.
هل ستقدر على القطع مع قلقنا القديم؟ مع النّظام المعرفي القديم؟ مع خصوماتنا التي لا تشبه الخصومات الفكريّة؟ مع ادّعائنا النبوّة دون نبوّة؟ مع إملاءات الخارج؟ مع سياسيين دون سياسة واقتصاديين دون اقتصاد وإعلاميين دون إعلام وفنّانين دون فنّ ومثقّفين دون ثقافة وشعراء دون شعر؟
لعلّنا نراها هذه النّخبة التي لا تشبه النّخبة فهي تولد من رحم الزّمن العاصف الذّي نعيش ومن بؤرة القلق الملازم لنا لتعيد تفكيك الدّولة وتعيد بناءها كي لا تكون دولة الفئة القليلة المهيمنة المحتكرة لكلّ الثّروة بل دولة الناس المبدعة الخلّاقة التي تنبّت النّور في العراجين والذّهب في السّنابل ودولة الفئات الولّادة المنتجة لكلّ ما هو جميل ومشترك وجديد. دولة الشّرائح الواسعة التي تجسّد الثّورة في معانيها المختلفة وفي أبعادها العميقة. نخبة تكون أكثر فعلا وأقلّ قلقا واضطرابا في الأرض.