أيّها " السياسي " راقب أنفك عند الكذب

Photo

من حنّة ارندت إلى جاك دريدا كان الاشتغال على تاريخ الكذب، وكان التّأكيد على العلاقة التي تربط الحقل السياسي بالكذب وعلى الاستعمال الممنهج للكذب من قبل الأنظمة السياسيّة الشّمولية منها خاصّة. التّاريخ السياسي تاريخ يعجّ بالكذب بل إنّ الكذب يزداد اليوم شيوعا في السياسة في الدّيكتاتوريات أو الدّيمقراطيات على حدّ سواء إلى حدّ أنّ الفيلسوف والمؤرّخ ألكسندر كويري أعلنها صريحة وراجّة: "لم نكذب قط بالقدر الذي نكذبه اليوم. كما أننا لم نكذب على هذا النحو السّفيه والنّسقي والرّاسخ كما نكذب اليوم".

بلوغ الكذب السياسي أعلى درجاته في عصرنا يحوّل كثيرا من السياسيين وأذرعتهم من الإعلاميين، الكاذبين بدورهم، إلى " بينوكيات " عصريّة بأنوف طويلة. كلّما ازدادوا كذبا ازدادت أنوفهم طولا.

محنة الكاذبين اليوم في السياسة والإعلام، هؤلاء الذّين تسمّيهم حنّة أرندت: كاذبو مابعد الحداثة أنّ الكذب لديهم لم يعد إخفاء للحقيقة كما كان يفعل بينوكيو المسكين الذّي صار كذبه كذبا " تقليديّا " تجاوزه الزّمان، بل صار الكذب اليوم تدميرا للحقيقة وإتلافا للمعنى وتعطيبا للعقل ومنعا للتّفكير. فقد تدخّلت التّقنية وخاصّة الصّورة ( الصّور المصطنعة والكاذبة وصور الدّعاية ) بسلطانها الطّاغي لصناعة " الحقيقة " الملفّقة التي تحلّ محلّ الحقيقة أو ما نؤمن أنّه حقيقة وصار الإنسان، بفعل التّقنيات الحديثة والطّرق الإعلامي وعمليات التّزييف والتّزوير التي يضطلع بها " خبراء الكذب "، صار ذلك الكائن الذي يهوى الأشياء كما يتوهّمها لا كما هي في الواقع. بل قد ينكرها إن رآها كما هي ويحاربها بشدّة. لقد صدّق الكذب إلى درجة أنّه لم يعد قادرا على رؤية الحقيقة فتكون الصّدمة حين تتجلّى. ألا يعيش البعض الصّدمة هذه الأيّام من فرط تصديقهم الكذبة؟

لذلك تقرّ حنّة أرندت بأنّ الكذب: "لم يعد تسترا يحجب الحقيقة، وإنما غدا قضاء مبرما على الواقع، وإتلافا فعليا لوثائقه ومستنداته الأصلية ".

الإتلاف الفعليّ لوثائق الواقع ومستنداته كان الاستراتيجيا التي اضطلع بها أخطبوط إعلامي قبض بأصابعه على العقول وأمسك بالأدمغة يفرغها من وعيها الحقيقي ويجرّدها من الحقيقة.

لقد أصبح الكذب جزءا بنيويّا من الممارسة السياسيّة. فالسياسي أو الإعلامي التابع له اليوم يكذب ويكذب ويكذب ويزداد أنفه طولا مع كلّ كذبة ويدرك أثناء ذلك أنّه يكذب وأنّ المتلقي يعرف " الحقيقة " ويعرف أنّه يكذب ولكنّه لا يشعر بذلك " الخجل " الأخلاقي الذي شعر به " بينوكيو " في الحكاية. فالسياسة ليست حكاية أخلاقيّة تنتهي بالنّصح. إنّها " خرافات " أو " سرديّات " حديثة تصنعها التقنية وترسّخها في العقول وتدفع مستهلكيها إلى التّصديق لغايات براغماتية.

السياسة اليوم، كما تمارس من البعض ( لا ندري كم هذا البعض )، " فعل كاذب " بطبعها وهي خارج المجال الأخلاقي التّقليدي بل يكفي الانتماء إلى السياسة كي يمنح للسّياسي " الحقّ في الكذب " ولتصبح السّياسة حيلا قوليّة غايتها حجب الحقيقة لا كشفها مادامت لا تخدم الغاية النّفعيّة.

هل نحن نسير على خطى أحد منظري النازية الذّي قال: " يكفي أن تكرر نفس الأكذوبة مرات عديدة وعلى نحو متواطئ لتتحول إلى حقيقة "؟ أليس هذا ما حدث وما يحدث في واقعنا هنا حيث صنعت " حقائق " ملفّقة حوّلت وجهة مسار برمّته وقذفت به نحو التّنازل والارتداد بعد أن انطلت هذه الأكاذيب التي تلبس ثوب الحقيقة على نسبة كبيرة من الناس هنا وبعد أن استطاعت أحزاب سياسيّة أن نبني " أسطورتها " في الأذهان على الكذب؟

جاك دريدا يتحدّث في " تاريخ الكذب " عن التّدليس والافتراء اللّذين يفوقان الخديعة سوءا ويتحدّث عن الكذب الذّي " يقصد به إلحاق الأذى بالآخرين أو تضليلهم وذلك بمجرّد دفعهم إلى الاعتقاد في أشياء يعرف الكاذب أنّها خاطئة ". أليس هذا ما حدث ويحدث هنا؟

ما حدث لم يكن بالأمر الهيّن. كان هناك كمّ هائل من الأكاذيب التي وجّهت ل " نقض الواقع والأرشيفات الأصلية " بلغة جاك دريدا وبناء " واقع " مزوّر في المخيال الجماعي رفع جدرانه سياسيو الكذب وخبراء الكذب وإعلاميو الكذب بأنوفهم الطويلة.

لكنّ الجديد اليوم أنّ ثقبا ما قد حدث في جدار البناء الكاذب مع حياد القاضي واستقلاليته قد يهدّد بتداعيه. وستزداد ثقوب البناء مع موضوعيّة المؤرّخ وصدق المحلّل وشجاعة المحامي ونزاهة الكاتب وجرأة المثقف الحقيقي. الشّرخ قائم والتصدّع قادم وقد ينهار البناء على صانعيه. سيزدادون كذبا بازياد اضطرابهم وسيسعون إلى سدّ المنفذ وإلى " تغيير الحاضر وفق اهوائهم " كما يفعل كلّ الشموليين ولكن عليهم بعد أن انكشف جزء من الألاعيب أن يراقبوا جيّدا أنوفهم عند الكذب..

أيّها السياسي.. أيّها الإعلامي.. راقب جيّدا أنفك عند الكذب !

أطرف ما قرأت: بعض الدّراسات العلميّة تقرّ أنّ أنف الإنسان يطول فعلا عندما يكذب نتيجة الانفعال، فيندفع دمه إلى أنسجة أنفه فيمتدّ ( قليلا طبعا لا على الطريقة البينوكويّة وإلّا ستكون كارثة ) وهي من الأعراض التي تظهر على الإنسان الذي يكذب مثل تصبّب العرق والصّوت الأجش والحاد أحيانا ( هذا يذكّرني بعض إعلاميينا على البلاتوات ) وجفاف اللعاب وغيرها..

الأمر لم يعد هزلا..

راقبوا أنفسكم جيّدا.. وانظروا إلى المرآة بعد كلّ كلمة تتفوّهون بها..

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات