لا أخفيكم ... أخجل أن أعترف أمامكم أنّني كنت مهووسا بمتابعة مقابلات الفريق القوميّ قبل الثورة ... حرصت على متابعة كلّ مقابلاته في كأس إفريقيا أو في كأس العالم ، إلى درجة أنّني أحيانا كنت أتغيّب عن بعض الحصص، كان شغفا غريبا لا أستطيع مقاومته، حالة وطنيّة لا أستطيع وصفها ... أظلّ لأيّام ، أنتظر المقابلة وأنظر إلى العلم وأنا أقول في نفسي : هذه المرّة سوف يرفرف عاليا …
وكانت تقتلني الخيبات في كلّ مرّة، خاصّة حين ينهزم تلك الهزائم المذلّة الّتي تعكس إلى حدّ كبير حالنا العام، كبلد وكمجتمع، وتذكّرني دائما بشخصيّتنا التّونسيّة المائعة الهجينة، السّلبيّة الباردة المستسلمة، المتقبّلة العاجزة عن الهجوم الفاقدة للشّراسة والثّبات والمقاومة والجرأة والقدرة على القتال ...
أتذكّر مقابلة كأس العالم التي لعبناها في فرنسا ضدّ الانجليز ... يومها شعرت بحجم الإهانة الّتي وجّهت إلينا كشعب، وكأمّة، وليس فقط للاّعبين فوق الميدان ... كانت قوّتهم وغطرستهم فوق الميدان، وضعفنا وهزالنا واستسلامنا صورة من أبشع الصّور التي التصقت بذاكرتي ... يومها كان يمكن أن نخسر بعشرة أهداف لولا شكري الواعر، لكن المشكلة ليست فقط في النتيجة ... كانت المشكلة في صورة الإنسان الواقف فوق الميدان ... رجال متحرّرون أقوياء واثقون، مقابل ضعفاء مهزومين مكسورين بلا إرادة ولا يقين.
بعد الثّورة كفرت بالكرة وبكلّ الفرق الوطنيّة وبكلّ تلك التظاهرات العبثية الّتي ليست سوى صيغ وسيناريوهات لتدوير المال الفاسد وتكفين الوعي بكلّ شروط الحياة الكريمة … ما الّذي تغيّر كي ينقلب موقفي من النّقيض إلى النّقيض …
لم أفكّر طويلا في الأمر، لكنّني شعرت بأنّ الثّورة حرّرتني من ذلك النّوع من العبوديّة، كرة القدم بذلك الشّكل هي جزء من النّظام القديم ... جزء من أدوات الاستبداد والفساد ... جزء من إعلام التّضليل والإشباع النّفسيّ الكاذب لأحلامنا الوطنيّة المغدورة…
قبل الثورة لم يكن أمامي من متنفّس أعبّر من خلاله عن حبّي لوطني سوى متابعة الفريق القوميّ، النّظام كان يريد أن يختصر الوطنيّة في تلك الظّواهر الزّائفة لكي لا نحلم بما سواها …
لكن بعد الثورة، تغيّر كلّ شيء … صار لديّ ألف طريقة للتعبير عن حبّي لوطني … صرت أستطيع أن أكتب، أن أنشط سياسيّا أو نقابيّا ، أن أعبّر عن رأيي وألعن جدّ جدّ أجداد الخونة وأشارك في صنع المصير بالقليل أو الكثير … صار بإمكاني أن أحلم براية بلدي ترتفع في العقول وفي النفوس الحزينة وفي قلوب الصّادقين، فما الّذي مازال يربطني بفريقهم الّذي يدور كالطّاحونة المعطوبة منذ عقود ولا تطحن غير الفراغ…