سنأتي إلى الحبّ صاغرين..
نفتح بابا للقلق في يوم سيحبّ فيه الجميع الجميع وسيسعى فيه الجميع إلى البحث في هذا الزّمن الماكدونالدي الذّي صار فيه اللّاشيء متحكّما في كلّ شيء عن شيء، عن معنى يطمئنّ به على وجوده، سيبحث عن الحبّ بإظهار الحبّ، وسيستجدي الحبّ ليعطى الحبّ، فالحبّ حيلتنا الوجوديّة لنوجد ونجمل ونقترب من الكمال.
قد نحبّ لنحبّ وقد نحبّ لنحبّ ( بفتح الحاء ) وفي كلّ الأحوال هو حاجتنا الوجوديّة منذ الأزل فمنذ البدء كان الحبّ وكانت الحرب معا على الأرض. الحبّ يعمّر والحرب تدمّر ولا يمكن إنقاذ الإنسان من القلق إلّا بإشراع أبواب الحبّ ليحرّرنا من الرّعب والموت.
منذ البدء كان الحبّ وكانت الحرب وكان العربيّ المحبّ في الجاهليّة يأتي إلى الحبّ محاربا مقتحما مباغتا على طريقة البدو في الغزو. يغزو الأرض / الجسد طالبا الانتصار. وبعد الإسلام التبس الحبّ بالدّين والسياسة فالعذريّة التي كانت تجنيحا بالحبّ على الطّريقة الأفلاطونيّة وسموّا إلى المثال قد تكون في بعض دلالاتها احتجاجا خفيّا على التّهميش اقتصاديّا واجتماعيّا وسياسيا فكان الحبّ الكون الذّي انغلق فيه المحبّ اللّامبالي بما يجري حوله من صراعات سياسيّة بعد تمركز الدّولة الأمويّة.
استطاب المحب العذريّ الإقامة في الحرمان واللّوعة والوجد والصّبابة ولم يشأ المغادرة ولا المغامرة ولكن بقيت بداخله صورة المحب المحارب تشي بها اللّغة في حضور معجم الحرب الذّي يتخلّل الحبّ وفي الرّغبة اليائسة في الاقتحام والغزو وتصبح الأفلاطونيّة والمثالية والروحانيّة الخالصة وهما جميلا يصنع جمالية الشّعر وتسقطه اللّغة والإشارات الحسيّة في الخطاب.
ومع الدّولة العباسية ازدهر حديث الحبّ بازدهار الحضارة وصار حديثا أكثر مرحا خاض فيه الفقهاء والفلاسفة والأطبّاء والمنجّمون والقضاة والمفتون.. وبين أحد الفقهاء ( محمد بن داود الأصفهاني ) وابن الرومي حكاية طريفة يطلب فيها ابن الرومي فتوى حول قواتل الأحداق فيقول:
يا بن داود يا فقيه العراق ** افتنا في قواتل الأحداق
هل عليهنّ في الجروح قصاص ** أم مباح لها دم العشّاق
فيردّ الفقيه على ابن الرّومي:
كيف يفتيكم قتيل صريع ** بسهام الفراق والاشتياق
وقتيل التّلاقي أحسن حالا ** عند داود من قتيل الفراق؟
وفي كلّ هذا المرح الذّي يمزج العشق بالدّين والسياسة ويعابث مؤسّسة الإفتاء فتعابثه ويمازح الفقهاء في الحب فيمازحونه نتبيّن اتّساع مساحة الحبّ ومواجهته لمؤسّسة الفقه وتحرّره من بعض إكراهاتها ورغم ذلك ظلّ الحبّ ملتبسا بالحرب. ظلّ العاشق محاربا لكنّه صار يعلن انهزامه بسماحة ولا يخجله أن ترديه قتيلا سهام الحب. صار الضّعف في الحبّ مستحبّا والانهزام لذّة أمام امرأة صارت بدورها تعلن الحبّ وتشير إليه باللّغة المشحونة بالرّغبة فتتحرّر نسبيّا من عبء التّاريخ وأحكام القبيلة.
غير أنّ تاريخ الفتن والحروب الطّويل والذّي لم يتوقّف إلّا قليلا ثمّ تاريخ الهيمنة والاستعمار حديثا جعل الحبّ يتداخل بشكل أقوى مع الحرب وصارت فحولة الرّجال مع الارتكاس الحضاريّ وهيمنتهم على المرأة تعبيرا عن جراحات تاريخيّة ووجوديّة عميقة لا تزال آثارها جليّة في المخيال وفي الذّاكرة الجماعيّة فيصبح الحبّ تسلّطا وسعيا إلى استعادة الذّات المستلبة والأرض المنهوبة عبر الاستحواذ على المرأة وتملّكها.
لعلّه الثّأر التاريخي للذّات الجريحة التي لم تعد تقبل الضّعف والتذلّل للمرأة. يكفيها ذلّتها الحضاريّة. التذلّل لها كان زمن القوّة وزمن السّطوة الحضاريّة ببغداد والأندلس قبل أن تسوء الأزمان وتدول الأيّام.
وفي زمن عولمة الحبّ والحرب، زمن اجتياح الإنسان والمدن، زمن الجنون العاصف بالقيم، صار الحبّ معلّبا وسريعا وجاهزا كأكلة ماكدونالديّة، وكذلك الحرب. تلتهم سريعا وتمضي. وصار تسويق الحبّ كتسويق الحرب. بضاعة لتركيم الأرباح عبر تغذية الغريزة والإشباع الوهمي. صار الحبّ لاشيئا ضمن اللّاشيء الذّي تشيعه الحرب.
ولكنّ الإنسان الباحث عن المعنى دائما ليجد تبريرا لوجوده سيظلّ يبحث داخل اللّاشيء عن الحبّ ليجده ويوجد به. سيعيد إنتاجه من جديد ليعيد إنتاج ذاته. وبه سيقاوم الحرب المعلّبة والكراهية المعلّبة والخوف المعلّب واليأس المعلّب. وبه سيقاوم دمار المدن ووحوش الموت وصنّاع الفتن وتجّار السّلاح وعنصريّة حكّام العالم الجدد. وسيحوّل اللّاشيء إلى شيء وإلى معنى كبير وشاهق يحمله إلى حيث السّعادة التي لا تكون إلّا بالحبّ.
سنأتي إلى الحبّ صاغرين وسنأتي إلى الحرب شامخين..
فلا شيء يرفع الأنقاض عنّا سواه..
لا شيء سواه..