" من يحيا على حرمان غيره من الضّوء يُغرِق نفسه في عتمة ظلّ "
محمود درويش
" شكراً لكُل إنسان مشغول في نفسه ، يستغل عمره في محاولة دخول الجنة بدلاً من هدر الوقت في إثبات أنّ غيره سيذهب إلى النار "
علي شريعتي
المثقف الهادر لا يهدر طوال الوقت فقط ولا يهدر الوقت فقط بل قد يصل به الأمر إلى هدر دم المثّقف الآخر الذّي قد يختلف معه وعنه، هدرا معنويّا. والهدر المعنويّ يكون بأشكال متنوّعة: فقد يبدأ بالصّمت عمّا يبدع أو ينتج " غريمه " في ضرب من التّجاهل التّام فكأنّما لا وجود له وصولا إلى الإشارة والتّلميح ثمّ التّأليب ضدّه والتّصريح ليرقى أعلى درجات الهدر المعنوي وهو التّشويه والتّخوين ثمّ الفتك فالاغتيال المعنوي وإسالة دمه الحبريّ على رصيف ثقافة مهدورة. ويصبح الهدر هنا عدم اعتراف بوجود الآخر الذّي يتوهّم بفعل تضخّم ذاته أنّه يهدّد وجوده ويسلبه " مكانته الموهومة وكيانه الخاوى.
والمثقّف الهادر لدم غيره الحبريّ مثقّف حبيس " العصبيّات " الثّقافيّة والإيديولوجيّة وحبيس عصابيته الفكريّة و " طائفته " السياسيّة عاجز عن كسر الأنساق وتجاوز قضبان زنازين الوثوقيّة والتّأدلج الضيّق. يقضّى عمره كتكفيريّ " ثقافيّ " في " إثبات أنّ غيره سيذهب إلى النّار " مادام مارقا عن " مقدّساته " الفكريّة. وهو محكوم بثقافة الولاء ومحكوم بالعداء ليبرهن على الوفاء. الولاء لمن ينتمي إليهم والعداء لغيرهم ف " من ليس معي فهو ضدّي ".
وهو في عدائه يقدّم شهادة الوفاء للقبلية " السياسيّة " أو " الثّقافيّة " وكلّما ازداد العداء ترسّخ الوفاء. وهنا ينقلب المثقّف من " هدّام قناعات " كما يصفه ميشال فوكو إلى تابع منصاع وصانع أصنام فكريّة فيصبح الهدر هدرا للوعي وتزييفا له.
هو " يحيا على حرمان غيره من الضّوء ".. لذلك أغرق نفسه في عتمة الظلّ، وأغرق غيره.. وسادت العتمة..
والمثقّف الهادر مثقّف مهدور الكيان. فهو لم ينجم داخل واقع طبيعيّ تحترم فيه الذّات بل داخل واقع مستبدّ يلتهم فيه الجميع الجميع من أجل البقاء. وهدره ليس فقط ثقافيّا أو سياسيّا وإنّما وجوديّ أيضا. عاش الكثير من التّيه في وجوده وتقلّب بين مواقع ومواقع وتجارب وتجارب ومحن ومحن ولم يجد في الخضمّ ذاته. وصار تحت حذاء الاستبداد انتهازيّا.
ومع ذهاب الاستبداد ظلّ الهدر متلبّسا بالذّات عالقا بالرّوح كلوثة لذلك يهدر المثقّف الكثير من الوقت والجهد لهدر غيره في ضرب من التّجاوز غير السّويّ لهدره الذّاتي. المثقّف مهدور الكيان كائن محبط يائس متشظّ عاجز عن التحرّر من العبء التّاريخيّ والثّقافيّ والاجتماعيّ الذّي يختزنه لذلك وحين حلّت تلك اللّحظة البهيّة، لحظة الثّورة، ظلّ عالقا في وحل الماضي غير قادر على أن ينجز عملا فنيّا في مستوى اللّحظة الباهرة. كان الصّمت ثمّ الارتباك ثمّ الجدل العقيم والسّباب والإقصاء ثمّ العداء لدى بعض المثقّفين الذّين خسروا امتيازات كثيرة وكان اللّهث وراء المنفعة لدى البعض الآخر والبحث عن التّموقع والظّهور والترقّي.
المثقّف الهادر / المهدور لا يمكن أن يبني. إنّه يهدر كلّ شيء: الإنسان والثّقافة والمجتمع.. يهدر الوطن. ويظلّ مستغرقا في السّواد منكفئا على خيباته يجترّ أحزانه ويلعق مرارة التّجربة ويتّهم الآخرين بالفشل ويتجاهل كلّ إبداع ويشيع البكائيّات ويلغي الفرح ويستعذب الألم ويعادي الجديد ويحنّ إلى القديم ويستأصل كلّ مختلف ويرى الكون مؤامرة ضدّه.
المثقّف الهادر هادر بمعنى آخر أيضا فهو صاخب مدوّ ولكنّ بينه وبين الفعل قطيعة وفصام وعداوة وخصام. يهدر ضدّ الرّأسماليّة المتوحشة وضدّ عملائها لكنّه لا يكفّ عن مساندة الدّيكتاتوريات وتبرير الاستبداد وتشريع القتل. وهو لا يقاوم ثقافة الهدر ولا الهوس الاستهلاكي في هذا الزّمن الماكدونالدي بل يحوّل نصّة إلى " هامبارغر ثقافي " غايته الاستهلاك السّريع والرّواج السّريع داخل سوق ثقافيّة تسودها فوضى السّوق فلا معايير لها واضحة غير سرعة الاستهلاك والمرور السريع.
المثقّف الهادر لم ينقذ الإنسان المهدور في وطن الهدر وكان عليه ذلك. فلا مثقّف ما لم يسع إلى تحرير الإنسان من هدره، ما لم يسع إلى إنقاذ الإنسان. دون ذلك فنحن أمام " سلفيّة ثقافيّة " تمارس المنع والهدر: هدر الحياة والفرح وهدر الثّورة وهدر الثّروة: الرّوح والعقل والجسد.. كلّ شيء تعطّب في خضمّ خوض المثقّف لمعاركه الخاسرة من أجل استعادة مكانته في عالم تغيّر، وغياب وعيه بأنّه يجب أن يتحوّل إلى مثقّف آخر غير ذاك الذّي أنتجه الاستبداد.
ظلّ المثقّف الهادر المهدور يدافع عن منظومة الهدر القديمة التي أنتجته.. ولم يدرك أنّ الزّمن تغيّر.. وأنّ عليه أن يبحث عن وظيفة جديدة له هي تأسيس الجديد الذّي ينتج الإنسان المرح في وجوده السّعيد في تصالحه مع ذاته..
كم سيهدر المثقّف الهادر من وقت آخر كي يجد عملا آخر له غير الهدر؟