تأتي فجيعة التّمساح الذّي قتل في حديقة الحيوانات في البلفدير لتغطّي على فجيعة نهب آلاف المليارات على امتدادا 60 سنة. رقم جعلني في حالة ذهول لأيّام فأنا قد صوّرت في روايتي برزخ العشّاق النّهب الذّي تعرّضت له البلاد على امتداد عقود والذي حوّل مدنها إلى مدن للدّود يمتصّ خيراتها ويحوّل شعبها إلى أشجار خاوية تعاند الخواء بالوقوف ولكن لم أتصوّر أن يبلغ الرّقم هذه الدّرجة.
إنّه رقم مفزع .. رقم يقتضي أن تفتح من أجله ملفّات وتقام ندوات ودراسات وحوارات عميقة..
لكنّ إعلامنا كان حزينا لواقع كرة القدم الذّي اكتشف فجأة أنّه بلغ ذروة انحطاطه.. بفضل النّقرات.. كما اكتشف فجأة العنف الموجّه إلى الحيوان.. هكذا فجأة..وكأنما كنّا في الجنّة.. وفجأة وجدنا أنفسنا على الأرض.. القاحلة..
المبلغ المنهوب ما بين 1960 إلى 2010 والذّي يبلغ 38.9 مليار دولار وفق ما صرّح به خوان بابلو بوهوسلافسكي خبير الأمم المتحدة المعنيّ بآثار الدين الخارجي في الندوة الصحفية التي عقدها في خاتمة زيارته إلى تونس، يفسّر الكثير من الخواء الذّي نعيشه الآن.. الكثير الكثير..
لتقريب الأمر أقدّم التّفسير الذّي قدّمه المؤرّخ الأستاذ محمّد ضيف الله حول المسألة:
" بالعملة التونسية ذلك الرّقم يساوي حاليا حوالي: 85000 مليار ملّيم. أي أنّ النّهب بلغ في المعدّل 1700 مليار في السّنة أي حوالي 4 مليارات يوميّا طيلة 50 سنة."
" من ذلك المبلغ 33.9 مليار دولار أي حوالي 75000 مليار مليم نهبت في عهد بن علي أي بمعدل 9 مليارات ملّيم يوميّا طيلة 23 سنة ."
والآن، نحن الشّعب المنهوب، ماذا لو تخيّلنا كيف كان الوطن يكون دون هذا النّهب؟
لو تخيّلنا قليلا، قليلا فقط..
أم نهب الخيال أيضا؟ فالنّهب يطال كلّ شيء: الأموال والعقول والأرواح والخيال.. أيضا.
9 مليارات يوميّا يعني:
• بناء مستشفى كلّ يوم
• بناء مؤسّسة تربويّة كلّ يوم
• بنية تحتيّة قويّة، كلّ يوم
• بناء جامعة كلّ يوم
• مخابر بحث، كلّ يوم
• بحث علمي، كل يوم
• فلاحة تحوّل الوطن جنّة، كلّ يوم
• وسائل نقل متطوّرة، كلّ يوم
• أجهزة دولة قويّة، كلّ يوم
• إعلام متطوّر، كلّ يوم
• ـ ثقافة، إبداع، ابتكار، كلّ يوم
• اقتصاد قويّ، إنتاج وتصدير، كلّ يوم
• رياضة متطوّرة، كلّ يوم
بقليل من الخيال يمكن أن نتصوّر كيف كان لتونس أن تكون.. لولا النّهب الذّي طال كلّ القطاعات.
كان بإمكانها أن تكون في الصفّ الأوّل للدّول التي استطاعت تحقيق نهضتها الحضاريّة في نفس المدّة الزمنيّة ( 50 سنة ) بالاعتماد على مواردها البشريّة. ولكنّ جمهويّة النّهب أنتجت الإنسان المهدور الذّي لا يثق بشيء: لا بنفسه ولا بقدراته ولا بوطنه ولا بالدّولة..
ولن يتوقّف الهدر دون إيقاف النّهب..
حماية الدّولة من لصوص المال العام.. هو الشّرط الأوّل لإنقاذ الإنسان المهدور الذّي لا يمكن أن يبنى الوطن به.
ليس صدفة أن يقتل تمساح بهذه الطّريقة البشعة هنا.. على هذه الأرض..
الكثير هنا صار لا يؤمن بأنّ " على هذه الأرض ما يستحقّ الحياة "
قتل الحيوان في جانب منه مؤشّر على أنّ الإنسان قتل في جزء منه بطريقة ما.. قتل شيء هامّ فيه.. لسبب ما..
تخيّلوا فقط العيش في جمهوريّة النّهب لأجيال طيلة 50 سنة..