في عودة جميلة إلى الرسائل الأدبية، أنشر هذه الرّسائل التي وصلتني من الزّميل والصّديق العزيز رمزي بن شعبان الأستاذ المميّز في المعهد النموذجي بتونس أثناء قراءته لروايتي برزخ العشّاق. الرّسائل وصلتني في شكل شذرات لتضيء جوانب كثيرة من الرّواية وأنشرها كما هي ( لم أحذف منها إلّا ما يتعلّق بما هو خاصّ بالمرسل كما حذفت كلمة: حضرتك.)
شكرا رمزي العزيز على هذه القراءة التي أسعدتني وعلى هذه الرسائل التي أعادت زمن الرّسائل الأدبية. دام ضوء بصرك ونور بصيرتك.
أهلا ليلى.قرأت روايتك قراءة أولى بصعوبة كبيرة بحكم إعاقة بصرية حادة .صراحة وجدتها نصا مركّبا فيه السرد والخاطرة والقص والشعر والأسطورة والثقافة الشعبية…وأحيانا أضطر لإعادة بعض المقاطع لتمثلها وأربط اللاحق بالسابق لكي لايضيع علي المعنى…هناك تداخل بين الخطاب الرومنسي الحالم والتوق إلى المثالية والخطاب الواقعي المباشر المرتبط بتفاصيل الواقع الرديء…
المهم أنني فهمت خلود الشهيد في عالم البرزخ وتجليه المستمر في عالم الشهادة فالبطل حيّ ميت وموته شهيدا حياة له وبرزخه هو اتحاده بالمطلق في حياة أبدية فالأزل هو الاستمرار في عالم الشهادة والسرمد هو خلوده في عالم الغيب وبينها الأبد الذي يحتضنه وكأن البرزخ هو انتظار للبعث بحكم أن البرزخ حيز يسبق القيامة والنشور…روايتك هي ملتقى الحضارات والبلدان والجهات حبلى بالدلالات القابلة لشتى التأويلات…عذرا ليلى إذ لعلني دنست نصا مقدسا بملاحظاتي المتواضعة أمام إبداعك الشامخ.واسلمي ياليلى.
أهلا ليلى.روايتك حيرتني وأنا بصدد قراءتها للمرة الثانية ويبدو أن المشكلة هي تمزق بين البعدين الموضوعي والعقلاني والذاتي العاطفي.المهم أن مفهوم البعث والانبعاث قار وحاضر بقوة فالبطل الشهيد حي حتى وإن كان مستقرا في مثواه الأبدي وقد عاث الدود في جسده الفاني…
هناك تصرف مع الموت وكأنه الحياة المتحركة المبدعة الخلاقة وهذا محيل على أبي العلاء في رسالة الغفران حيث بعث الأموات من أجل السخرية والنقد اللاذع أما أنت فقد بعثت شهيدا لقهر الموت وتحدي الزمان…أما فرنسا فكأنك تذيبين جليد عقدة الغرب وحضارته الغازية وتنظرين لمفهوم العشق الذي لابد أن يسود العائلة الإنسانية قاطبة شرقا وغربا.ولست أدري ما الذي سأكتشفه وأنا أتقدم داخل نص متناص أفقد أحيانا متابعته والعيب في قصوري لافي كمالك.واسلمي يا ليلى.
أهلا ليلى.بطلك الشهيد ملك للجميع ليس لإيديولوجيا أو حزب .لقد نجحت في نزعه من النغفة التي تعودناها تحصر البطل داخل ماركس أو محمد …بل كل خلفية فكربة في العالم تجد نفسها منغرسة في البطل الشهيد الكوني الإنسان الذي سعى مقاوما من أجل حياة إنسانية أرقى فرغم استشهاده بقي مشدودا إلى الحياة همزة وصل بين البرزخ والدنيا .شيء آخر لافت هو البنية السردية الثرية نثر فني شعر منثور سرد عادي مباشر …ولكن هذا التنوع يصب في اتجاه واحد أن نجعل الحياة إنسانية راقية بعيدة عن كل ما يتنافى مع القيم الإنسانية الأصيلة وقاطعة مع القيم الإنسانية المتدهورة…
هناك أشياء لا يتفطن إليها إلا من كان زميلك في الدراسة الجامعية وقريبا منك …وجدت في روايتك أصداء لأصوات أساتذتنا الأجلاء في كلية الآداب ولا سيما ساداتنا توفيق بكار وفاروق عمران ومحمود طرشونة وكأنك بعثتهم من جديد فرنت أصواتهم في ذاكرتي من جديد تستفزني وتحيرني وتعمق حنيني لأشياء ولت و انقضت إلى أبد الآبدين ولكنها حية وخالدة حتى بعد الموت مثل خلود شهيدك الشهيد السعيد.
يموت الطاغية وينتهي حكمه، أما الشهيد فيموت ويبدأ حكمه.(كيركغارد).وقبل ذلك مساء النور.
أهلا ليلى.بداية الرواية ثورة متأججة تتحدى الموت البيولوجي والموت في الحياة ووسطها تجريبي فيه مقاومة وصراع وصمود مفعم بالنفس الإنساني من الشنفرى إلى محمد إلى لوركا إلى بودلير إلى فيروز…وكأنك تذيبين الجميع في قالب واحد وهو الإنسان وليس أي إنسان أي الإنسان الذي ينتج جماليات الحياة ويبدع البهاء ليجعل من الحياة حياة وليس مجرد نبضات قلبية وشهيق وزفير صاعدان ونازلان فقط فهناك رومنطيقية نضالية ورؤية مثالية تجمع النخبة الإنسانية أنبياءها وفلاسفتها وشعراءها وفنانيها إصرارا على أن الجميع في الحقيقة هم وجوه مختلفة لحقيقة واحدة وهذا مالاتفقهه الدهماء ولاتستسيغ العامة فتفكر بعقلية الفرقة الناجية وتشوه سحر الوجود .
الساردة تقاوم عبر أبطالها ثقافة الموت وهي عليمة بشراسة المعركة داخل بيئة متخلفة متقاعسة تتنفس الأسطورة وتميل إلى الفراغ وتستسلم للفساذ فتتمثل المفعولية وتجد فيها لذة تجعلها تقاوم من يدعوها إلى الفاعلية لذلك فإن نهاية الرواية وقعية بامتياز(ولكن هناك وفي مكان ما وعند التل الأسود كانت هناك كتيبة …تبحث …لاقتحام ممدن الميموزا البهية)نهاية مذكرة برواية الطاعون لألبار كامي حيث أكد في نهايتها بأن الجرثومة لمازالت موجودة وهي مستعدة لوباء جديد فتاك.واسلمي ياليلى.
أهلا ليلى.يعطيك الصحة والعافية.شيء لافت ياليلى على مستوى التركيب أي بناء الجملة،فقد لاحظت هيمنة واضحة جدا ولافتة للجمل الفعلية وتحديدا للأفعال الدالة على الحركة وفي هذا دليل على اختمار الثورة في وجدان الكاتبة وعقلها فانطلقت من عقالها ملفوظا نفسيا ليستحيل كلمات ليست كالكلمات.وهذه المسألة جديرة بدراسة جدية منهجية تتجاوز الخواطر العابرة وقد تصل إلى إنجاز عمل إحصائي وجداول.انظري إن شئت إلى النص المدرج في الغلاف الخارجي للكتاب وقومي بإحصاء للأفعال فستجدين كما هائلا حركيا وثابا يجعل المطالع يتحرك وهو في مكانه .
صباح النور .أهلا ليلى.بطل الساردة تنطبق عليه مقولة قولدمان(بطل مشكلي يبحث عن قيم أصيلة في مجتمع متدهور) لذلك انبرى في رحلة وجودية مسافرا في الزمان والمكان همه معرفي إنساني فتحدى البطل مشكلة الموت إذ بعث واستحالت ظلمة القبر إلى نور والجمود إلى حركة وتفقأت المعرفة من الموت وباللأحرى من الشهادة حية وكأن الساردة تناجي إبسن صدقت سيدي(سنعلم يوم نبعث من بين الأموات)فعلا إنه حديث البعث يتحد الماضي من خلاله بالحاضر ناقشا الخلود لانتصار الشنفرى على الغول أي انتصار الواقعي على الأسطوري وانتصار الشجاعة على الخوف والوهم فالشهيد متشبع بشتى أنواع الثقافات الرافضة للهزيمة والموت لذلك تحدى الدود الذي ينخر الجسد لحما وعظما كما نخرت عصا سليمان ولكنه ظل قاعدا وكأنه في غفوة تتحدى الموت .بطل الساردة تنفصل فيه الروح السماوية عن الجسد الترابي فيتحرر من أدران المادة(وكون النفس في الجسم الخبيث)وتبلغ الحياة أوجها تحديا للفناء ومعانقة للخلود (تحسس صدره حيث تقضم الدودة عضلة القلب فلم يجد أثرا للقضم) لأنه يرى بعين الحياة الأسطورة،فمن شرب منها لايموت أبدا.
فعلا لقد وجد طريقه(عدت ولن أتوه بعد الآن)المرأة لاتغيب مطلقا في الأعمال الأدبية والمرأة الأولى في النص هي الساردة التي تختفي وتظهر أيضا…تختفي وراء الشخوص فتحركهم كما تريد وتنطقهم بماتشتهي وتظهر راوية مباشرة ساردة لمقولات أتقنت اختيارها وتضمينها في سياقها المناسب فحتى الأسماء بدلالاتها فاسم ماري لفت انتباهي وشدني وكأنها العذراء القديسة البتول تبحث عن السيد المسيح الشهيد المصلوب الذي بعث ورفع وينتظر المؤمنون عودته من جديد فهناك تشابه كبير بين السيد المسيح الشهيد المقاوم المصلوب ثم المبعوث حيا وشهيد الساردة المقاوم والمقتول والمدفون فحاكت الساردة الإله في البعث والنشور فكان الشهيد حيا حاضرا وناظرا متجدا بالمسيح ومنفصلا عنه في آن فالمسيح في السماء ينتظر الأمر الإلهي بالنزول إلى الأرض ولكن الساردة أذنت لشهيدها بالقيام والعمل وتجاوز النتظار السلبي فليبدأهو أفضل من الركون في انتظار الذي يأتي ولايأتي.(واسلمي يليلى)
أهلا ليلى.. البطل الشهيد مثقف عضوي حسب غرامشي إذ هاجر الى عاصمة النور تاركا حبيبته اي متجاوز لعواطفه الملتهبة و كانت مريم و كان النضال المتسلح بالعلم . * في الرواية جانب سردي تاريخي هام لإرهاصات الثورة التونسية فابداع الكاتبة يكمن في تضمين الاحداث وسط الرواية فيتحول السرد التاريخي الجاف الى لغة راقية و نثر فني جمالي فحتى نصب الساعة في نهاية الشارع الرئيسي يستحيل الى زمن جديد يتوقف فيه زمن الخلق و الابداع و كان النصب الجديد الذي ازاح الزعيم و غيبه ايذانا بزمن رديء يهيمن فيه مستبد جاهل و دولة بوليسية بامتياز …
و لكن البطل الشهيد تحدى فهو المقاوم الرافض و اقصى ما يفعلون به قتله فهو عليم بان حياته في موته و ان الشهادة ليست عدما بل هي حياة قاهرة للموت في الحياة , الموت الذي لم يمنعه من التمسك بالمراة الملهمة فالمراة في الثقافة الانسانية منجم ثري لا ينضب كالطبيعة الخلابة و الميموزا الساحرة .
* بدا لي نصك متجذرا في ستة اساليب متداخلة و منفصلة في آن حسب المقاطع و تموجات الساردة العقلية و الوجدانية المرتبطة بلحظة الخلق و الابداع التي لا تسيطر عليها الكاتبة اللهم الا اذا راجعت ما كتبته بعد هدوء العاصفة الفكرية فتعود الى اوراقها مصوبة و ربما تلغي بعض المقاطع و رغم مجهودها فقد تسربت بعض (الاشياء) البسيطة رغما عنها و لعلها ادركتها بعد قراءة الرواية بعيون الناقد لا بعيون المبدع و قد ترغب في حذفها او تعديلها او تعويضها و لكن الولادة الحقيقية تحققت فلات حين مناص . النص كما اشرنا آنفا مركب اسلوبي فيجد المتابع , الواقعية - الرومنطيقية - الرمزية - السريالية و ربما نجد بعض العناوين الفرعية و لكنها تدرج في خانة من الخانات اعلاه فعلى سبيل المثال تدرج اللهجة الدارجة التونسية في خانة الواقعية … و هكذا .