لم يترك تاريخ البشرية شيئًا يتعلق بالحياة وحق الحياة، إلا واستن له قانونًا وضعيًا، أو عرفًا اجتماعيًا، وغالبًا ما يكون العُرف أكثر قوة من القانون المكتوب. ومن الطريف أن البشر وضعوا جملة قواعد أخلاقية حتى للقتل والاقتتال والاحتراب.
والسؤال: كيف تأتى أن تحكم سورية سلطةٌ لا يسبب لها القتل مشكلة أخلاقية؟
المفهوم المُفسّر للقتل وأيديولوجيا القتل لدى السلطة هو مفهوم الشرعية، وخارج مفهوم الشرعية وما يُولّده من ممارسة في غيابه وحضوره، لا يمكن أن نكشف عن الجوهري في الحال السورية.
تقوم شرعية أي حكم سياسي على مبدأ الاعتراف، بل لا تتولد أي شرعية إلا تأسيسًا على فعل الاعتراف. فلا حضور للحق إلا بالاعتراف بالحق وهكذا، والاعتراف لا يصدر إلى عن حرية بالاعتراف. الاعتراف فعل حر وعكسه الإذعان؛ إذ ينتج الاعتراف الشرعية، فإنه -عمليًا- يُنتج الأساس الأخلاقي للسلطة ومؤسساتها، ويجعلها التعبير المنظم للعقد الاجتماعي.
في عالم ما قبل إنتاج السلطة بالانتخاب الحر كان الاعتراف محدودًا، وأساسه الاعتراف من حلقات ذات منعة داخل المجتمع، ولم يكن المجتمع قد وصل -بعد- إلى وعي بضرورة العلاقة بين السلطة والاعتراف لكنه كان يعترف بمؤسسات الدولة لارتباطها بحياته العملية.
لقد سعى حافظ الأسد منذ انقلابه في 16 تشرين الثاني/ نوفمبر للحصول على ألاعتراف اعتراف سياسي “تأسيس الجبهة الوطنية التقدمية”، واعتراف مجتمعي بتشكيل “مجلس شعب”، واعتراف بعثي، ودستور يؤكد هذا ألاعتراف وكان يعتقد بأن الحصول على الاعتراف بهذا الشكل كافٍ لمنح القوة الحقيقية للسلطة، وهي الأمن والجيش الشرعية.
لم تمض مدة قصيرة على ترتيب مظاهر الاعتراف بشرعية سلطته؛ حتى حال تغوّل السلطة العسكرية والأمنية -بتحكم منه بسلوكها- دون الاعتراف، ومن ثم؛ دون الشرعية. وتصرفت السلطة، وهي واعية لهذه الحال، دون أي أساس أخلاقي؛ لأن الشرعية والاعتراف الحر هما الأساس الأخلاقي للسلطة المعاصرة.
أما وقد فقدت السلطةُ الشرعيةَ والاعتراف، ومن ثم؛ فقدت الأساس الأخلاقي لوجودها، صار كل شيء مباحًا، من السرقة عبر الفساد المكشوف والعلني، وعبر استخدام القمع والعنف، وانتهاءً بالقتل، وعوّلت على مبدأ الإذعان.
جرى فرض الإذعان بأكثر أساليب الاستبداد لاعقلانية وهمجية، فكانت السجون ممتلئة بأفراد حركات سياسية رفضت الاعتراف، دون أي محاكمة، ولسنوات طويلة، ومن جميع أنواع الحركات السياسية اليسارية والقومية والإسلامية، وفُرض الصمت على المجتمع وآوى إلى التقية، وجرت أكبر عملية نهب منظم لثروات البلد…. وكان ما كان.
حين عبر المجتمع، بعد عملية التوريث- الفضيحة للابن، عن عدم اعترافه بالسلطة، ومن ثم؛ لا شرعية السلطة، بثورته ظهر الأساس اللاأخلاقي لغياب الشرعية بأعلى صوره: القتل للمختلف، أي مختلف أظهر تمرده على الإذعان المعيش.
عندما يصل الحاكم وجماعته إلى مرحلة لا يُشكّل فيها القتل لديهم مشكلة أخلاقية بالمطلق، لا يعود -هنا- تفكير لا بالقتل ولا بأساليب القتل ولا بعدد المقتولين، ولا تعود حياة الآخر بالنسبة إليه ذات قيمة. تصفية في السجون، استخدام السلاح الكيماوي، قصف السكان المدنيين، استقدام المساكين من خزان الفقراء وزجهم في الموت من أجله.
والحق، إن في إهمال الجانب الأخلاقي لممارسات الحكم أو مسه مسًا سطحيًا، إهمال لمسألة القيمة الإنسانية والأساس الأخلاقي للشرعية.
فالغرب والعالم مازال ينظر إلى ما يجري في سورية من منظار الحرب الأهلية، ومن منظار الصراع على السلطة، ويضع الحلول على أساس ذلك مع الاعتراف بشرعية اللاشرعي الفاقد للاعتراف، ومن ثم؛ بالذي لا يشكل له القتل مسألة أخلاقية.
إن الشر ليس نسبيًا إلى الحد الذي لا يُرى في ممارسات السلطة الحاكمة، بل إن التعامي عن هذا الشر المطلق شر أشر.