قالت زوجتي وقد أعيتها الحيلة في إقناعي: - هكذا أنتم دائما، تشتكون من الإقصاء، لكنّكم لا تستجيبون لمن يدعوكم. ثمّ صمتت ولم تقل شيئا، وكأنّني سمعت فيما لم تقله " تبّا، أو سحقا... " أو شيئا من ذلك القبيل... منذ مدّة، صرت أسمع أشياء كثيرة ممّا لا يقوله النّاس... أعترف أنّني تردّدت كثيرا في الذّهاب إلى الحامّة، أنا رجل خجول جدّا، وثقيل المزاج على نفسي وعلى الآخرين... يسكنني الضّجر ولا أحبّ الأضواء ولا النّدوات ولا استعراضات النّخب البائسة، الّتي لا ترحي طواحينها سوى الهواء، والكلام البارد المغشوش، سيّارتي انتهى عمرها الافتراضيّ منذ زمان ولا أثق بها إلاّ كما يثق المفلس بجيبه المخروم، ثمّ إنّ آلام الظّهر صارت منذ مدّة أقسى بكثير ممّا أحتمل، فكيف سأحتمل أن أجلس متسمّرا على مقعد خانق طيلة سبع ساعات، وأسباب أخرى...
في الطّريق إلى قابس، نشرت تدوينة، وتهاطلت عليّ المكالمات والإرساليّات على الخاصّ، من أحبّة وأصدقاء جمعنا الفايسبونا، هذا يدعوني إلى بيته، وتلك إلى عرس أخيها، وثالث يترك رقمه ويعرض عليّ المساعدة في أيّ أمر أحتاجه... ورابع وخامس…
شعرت أنّني على موعد مع رجال ليسوا كالرّجال، ونساء لسن كالنّساء... وصلت إلى قابس بعد الغروب، فعلمت أنّ صديقي عادل السّمعلي قد سبقني إليها، وفوجئت بالصّديقة ليلى بلحاج عمر كانت معي في نفس القطار، كان بييننا أمتار طول الطّريق ولم نلتق، وكان لا بدّ أن تكون الحامّة هي أرض الميعاد... في اليوم الموالي كانت النّدوة، عن علم من أعلام اليسار، ما يسمّونه "اليسار الجديد" نور الدّين خضر، وكان من ضمن المتدخّلين جيلبار نقّاش، رجل بحجم التّاريخ، وعمّار الزّمزمي، يساريّ بلون الواحة ونكهة البنّ الصّافي... وآخرون، أحترم بعضهم، ولا أحترم من جاءهم فاسقا، وقد فاحت رائحة عطنه رغم قوارير العطر التي أفرغها في جسده الكريه…
استمعنا بشغف من يكتشف تاريخا وحضارة، ورأيت تعايشا فريدا بين اليسار واليمين، لا أحد يفسد عرس الآخر، رأيت من الإسلاميّين من يباهي بنور الدّين خضر ويشمخ به عاليا، ورأيت يسارا متخلّقا (والعبارة لليلى بلحاج عمر)، يجلسون في المقهى معا ويتمازحون ويقرؤون الشّعر ويتبادلون النّكت القبيحة معا، في تعايش وودّ وانسجام لم أره يوما في العاصمة، تلك التّي لا تربّي في دور ثقافتها وفي مهرجاناتها سوى العقارب والثّعابين وبنات آوى…
رأيت شبابا يتطوّعون لخدمة الجميع، حين ينطقون اسم الحامّة، تمتلئ صدورهم وتفيض قلوبهم، كأنّهم ينطقون أسماء أمّهاتهم أو حبيباتهم… رأيت مثقّفين من الناس وللناس، متواضعين وبسطاء كالماء الصّافي، وعلمت أنّ أغلب زعماء اليسار والإسلاميين والنقابيّين، نبتوا هناك، وعلمت أنّ عدد كتّابها الّذين نشروا بنات أفكارهم، قد جاوز الثلاثين، في رقعة من الأرض، قد لا تتّسع لجلد الثور …
في الحامّة رأيت شارعا نظيفا، لا تسمع فيه لغوا ولا بذاءة ولا عربدة بسبّ الجلالة ولا ترى من يتحرّش بعابرة تتعثّر في سجوف حيائها… رأيت قوما يتنفّسون الشّعر، الفصيح والشّعبيّ، ويعيشون على إيقاعه وأوزانه حاملين لكلّ قيم البداوة الأصيلة وساخرين من كلّ ضلالات المحدثين الخائبين… رأيت الخال عمّار الجماعي غاضبا ممّا لا يعرف، واكتشفت أنّه مثلي، لا يجرؤ على أن يتأخّر عن إحضار البصل في موعده، وأنّه يعرف بالضّبط متى يكون جبانا، كي يدّخر شجاعته إلى معاركه الحقيقيّة… رأيت Karama Thabti ذات "الأحلام الكبيرة"، زهرة الأوركيد الجنوبيّة، شاعرة برقّة الحمام وعذوبة الأحلام الباقية، دفقة الشّذا الّتي بلّلت أرواحنا المتعبة وعطّرتها بما تضيق عنه المعاني والرؤى والكلمات… كرامة ثابتي… اعرفوا قصّتها فقط، واسمعوها في جلال وخشوع، وانظروا في عينيها تروا أعماق أعماقكم… وتألفوا أقسى ما فيها كنت أعرف أنّ الحامّة ليست المدينة الفاضلة، وأنّ شعبها ليس شعب الله المختار، وأنّ لهم كما للنّاس أحزانهم وخيباتهم وبذاءاتهم وأحلامهم وانكساراتهم وحماقاتهم الجميلة… كنت أعرف كلّ ذلك، فلم تخدعني عين السّائح وعدسته الكاذبة، ولكنّني أدركت أنّ الحكمة لم تكن في أن تكون أسعد النّاس، وما كانوا كذلك…
الحكمة في أن تجعل لمعاناتك معنى عظيما تعيش به في تآلف رائع وانسجام كامل مع نفسك ومع من يحيطون بك جيمعا، وكانوا كذلك… عندما عدت، سألتني زوجتي: ماذا رأيت في الحامّة؟ فأجبتها: - رأيت أمَّتي!... ليتنا نذهب جميعا إلى هناك، لنتعلّم كيف نعيش .