في خضمّ الحيرة الانتخابيّة أعاد لي الأمل. لقاء مع أحد الأصدقاء الذّين قد يترشّحون في إحدى الجهات للانتخابات البلديّة. هذا الصّديق حدّثني عن أحلام شاهقة وبرامج بسقف مرتفع غير معهود. إنّه يحلم مع آخرين بأن تتحوّل جهته إلى نموذج أمثل لكلّ جهات الجمهورية. أن تكون مثالا للاقتداء من حيث البنية التحتية والمعمار والصحة والتعليم. أن يصعد بها إلى القمّة.
وهو لا يتكلّم من فراغ بل من تجربة طويلة خارج الوطن ومن استعداد ماديّ ومعنوي ومن برامج ومشاريع ومن وعي بأنّ الوطن لا ينهض إلّا إذا بدأ كلّ واحد فينا بمنطقته. أن يبدأ حيث هو. من الشّارع حيث يقيم ومن المدرسة والمعهد والمستشفى والجامعة ومن الرّصيف وعامل النّظافة الذّي يرتّب الرّصيف.
" الحكم المحلي " عبر المجالس المنتخبة التي تضمّ أشخاصا أكفّاء لا يتمّ اختيارهم بالولاء ويتحلّون بقدرة على إدارة الشّؤون العامّة ( نجد هذا في تجارب عالميّة مثل التجربة الفلنديّة أو اليابانية غيرها من التجارب التي حوّلت هذه البلدان إلى جنّة فيها يتمّ استثمار ثروات الجهة بذكاء وعدل) يعني قلب المعادلة على من يريدون احتكار السّلطة فوق ودعمها لصالح المتحكّمين فيها بالقوانين والتّشريعات، والذّي يعني أن تنجح في تحقيق أفكارك المحاصرة دائما بنزوات وجشع أقليّة أنانيّة على ارض الواقع وفي الحيّز المتاح لك وأن تصنع النّموذج النّاجح الذّي يمكن أن يتحوّل مثالا ينتشر كشقائق النّعمان في حقول البلديّات.
لن تكون المعركة سهلة.. لن تكون سهلا مطلقا أن تبدأ من القاعدة..
ولكن هو الحديث الذّي أقنعني إلى حدّ الآن في انتخابات أراها ضروريّة ولا أرى مقاطعتها سوى خدمة لمن يريدون بقاء الفوضى طاغية على الواقع ولمن لا يجدون في أنفسهم اقتدارا على خوضها من أجل انتصارات تعنيهم وحدهم.
هذه الانتخابات ليست لرفع شعارات سياسيّة ولا للحديث في السياسة بطوباويّة ولا للمزايدات فالأمر يتعلّق بالميدان وهو دائما الأعسر. هذا الميدان المليء بالفوضى والذّي يحوّل البلديّة من مؤسّسة تقدّم خدمات أساسيّة للمواطن إلى سلطة مصغّرة تضايق المواطن وتسدّ عليه باب العيش وهي سلطة صوّرها بيرم التّونسي بأسلوبه السّاخر منذ بدايات القرن العشرين في قصيدةه " لوري البلديّة " التي وصف فيها ما تقوم به الشّرطة البلديّة " اللّوري " من ملاحقات " للغلابة " الذّين يسعون إلى الحياة ببيع بضاعتهم على الأرصفة أو في " عربيّة الخضار " ( لم يكن بيرم التونسي يدري أنّ عربيّة الخضار أو ما يقابلها لدينا: برويطة البوعزيزي ستكون قادحا لثورة انطلقت شرارتها إثر تصادم مع الشّرطة البلديّة أو اللّوري بلهجته المصريّة )
يقول بيرم التونسي:
لوري البـــلدية عامل دوريّه
ومقدر روحــه على كل أذيّه
قوم شوف إيه لامم خرفان وسلالم
متاخذه غنايم وياريت حربيّة!
ويشوف الخضري ببضاعته بيجري
يدلقها وضوغري ياخذ العربــيّه
منذ عهد بيرم التّونسي لم يتغيّر شأن البلديّات ذلك أنّ فلسفتها ومرجعيّاتها لم تتغيّر فقد ظلّت دائما تجسيدا لسلطة القرار المركزيّة التي لا تخدم المواطن بقدر ما تخدم السّلطة. وظلّت خاضعة لتصوّر قديم للتشكيل الإداري الهرمي الذي يجعل المواطن بعيدا عن الممارسة الفاعلة فيما يتعلّق بشؤونه غريبا عن الشّان اليومي الذّي يتعلّق بحياته اليوميّة.
وإذا لم نغيّر فلسفة البلديّات ولم تشهد تطوّرا ملموسا في نظام مجالسها فنجعلها فعلا مواطنيّا إراديّا يؤدّي إلى اختيار الكفاءات القادرة فعلا على التّسيير وعلى تقديم التصوّرات التي تنبع من دراية عميقة بخصوصيّات المنطقة وحاجياتها، وإلى " اختيار الأنظف والأكثر عملا والأقل ثرثرة وخطبا " كما دعا أحد الأصدقاء، إذا لم نفعل ذلك فسنحصل على بلديّات شبيهة بتلك التي عهدنا تتحوّل بسرعة إلى أعشاش للأحزاب الحاكمة منها يمارس على المواطن كلّ أشكال القهر وإلى آلية بيروقراطيّة لتنفيذ سياسات فوقية.
عدم حصر البلديّات في خيارات حزبيّة ضيّقة يقتضي توحّد الشّرفاء ( متحزّبين وغير متحزّبين ) والتقاء الكفاءات الحقيقيّة الحاملة لأحلام وبرامج كبرى ومشاريع قابلة للتّنفيذ في قائمات قادرة على لفت انتباه المواطن المنصرف عن البلديّات إلى شأنه اليومي دون دراية أنّ البلديّة في تصوّرها الأمثل هي هذه المؤسّسة التي يمكن أن تخفّف عنه عبء اليومي.
ففي التجارب الناجحة لكثير من الدّول تتحوّل البلديّات إلى مخبر للأفكار الخلّاقة وللقدرة على الابتكار وتحويل موارد المنطقة إلى مواطن للشّغل وللعمل وللإبداع الثقافي والعلمي والصناعي.
كيف تصبح مدننا مناطق يحلو فيها العيش؟ ( يبدو أنّنا في التّرتيب الأخير عالميّا من حيث المدن التي يحلو فيها العيش ) وكيف لا تكون مناطقنا البلديّة حيّزا ضيّقا للمشاحنات والتوتّر والبذاءة والتسوّل بل مساحات للحريّة والمتعة والمعرفة في شوارعها يجتمع الجمال والكتاب والموسيقى وكيف يصير الورد قاعدة في أرصفتنا وكيف تصير النّظافة فعلا مقدّسا والمعمار وجها للجمال وروحا للمدينة؟ وكيف يصير المهرجان في الشّوارع والفرق الموسيقيّة مجانيّة في السّاحات وأمام البيوت والمسرح في الأحياء والرّسم فعل يوميّ على الجدران والثّقافة هواء بحريّ والمكتبات حدائق معلّقة تقاوم تصحّر العقل؟
البلديّات ليست فقط جمعا للقمامة ومقاومة للبعوض وتسريحا للقنوات المسدودة وجمعا للمكوس إنّها مشروع اقتصاديّ وفعل حضاريّ حقيقيّ جماليّ وثقافيّ لا يقتصر على توفير الحدّ الأدنى للإنسان. إنّها تطلب الحياة في أقصاها. ولا يكون ذلك بتسليم البلديّات للحسابات السياسيّة بل بتسليمها لحالمين قادرين على تحويل الحلم إلى فعل وواقع. ولا يتعلّق الأمر بإقصاء المتحزّبين بل بالبحث عن صيغة لقائمات تجمع أصحاب الجدارة والقادرين على تحويل الأفكار إلى واقع.
عنّي سأنتخب كلّ من يسعى إلى تحويل منطقته إلى نموذج جمالي واقتصاديّ وثقافيّ كما قدّمها الصديق المترشّح. فهذا يجعل متعة أن نحيا هنا متاحة .
هذا النّموذج الأمثل لمدينة يحلو فيها العيش ليس مجرّد حلم.. إنّه حقيقة سنعيشها يوما. وكلّ المشاريع الكبرى تبدا عادة بحلم صغير.
هو اسشراف لآت سيكون.. هي نبوءة.