سلعنة " الفتاوى " وسوق الانتخابات

Photo

يبدو أنّ اقتصاد السّوق قد أنتج بدوره " إسلام السّوق " وهو إسلام يتحوّل فيه الدّين إلى سلعة بمواصفات عالميّة تضع شروطها المؤسّسات العالميّة المتحكّمة في الاقتصاد وأهمّها شروط الاتّحاد الأوروبي التي ضبطها في تقريره سنة 2016 بوضوح تامّ نقطة نقطة في كلّ ما يتعلّق بحياتنا السياسيّة (الانتقال الدّيمقراطي والانتخابات البلديّة...) والاقتصاديّة (الإصلاحات الاقتصاديّة التي يطلبها الاتّحاد الأوروبي) والاجتماعيّة وتتعلّق خاصّة بتحقيق المساواة التامّة بين المرأة والرّجل وحماية المرأة من كلّ أشكال التّمييز والحرص على حقوق المثليين وغيرها.. والغريب أن تأتي هذه النّقاط في القسم الأوّل المتعلّق بالإصلاحات السياسيّة والمؤسّساتيّة بشكل يكشف أنّها تمثّل أولويّات مطلقة عند الاتّحاد الأوروبي رغم أنّها تتعلّق بما هو مجتمعيّ اي بالمجتمع الذّي نعيش فيه نحن ويفترض أنّنا ننتمي إليه ونفكّر فيه ونتصوّر كيفيّة تشكّله مستقبلا بأنفسنا (انظر وثيقة البرلمان الأوروبي المتعلّقة بعلاقة الاتّحاد الأوروبي بتونس بتاريخ 14 سبتمبر 2016) والأغرب أن تكون الدّعوة صريحة وعلنيّة ومباشرة ومتضاربة بصورة فجّة مع مبدأ سيادة البلدان باسم التّعاون الدولي.

تقول النقطة 14 من تقرير الاتّحاد الأوروبي: 14. يدعو ( أي الاتّحاد الأوروبي ) إلى تعزيز التوازن بين الجنسين في سياق السياسة العامة، ولا سيما من خلال إصلاح قانون الأحوال الشخصية لإلغاء قوانين التمييز ضد المرأة، مثل تلك التي تحكم الميراث والزواج، ولتعزيز مشاركة المرأة في الحياة العامة والقطاع الخاص، وفقا للمادة 46 من الدستور التونسي. وتشجع على إنشاء برامج لدعم النساء اللواتي يمكن أن يكونوا قادة الغد بهدف تعزيز وصولها إلى مواقع المسؤولية.

وفي النّقطة 21 يقول التقرير: يوصي ( الاتّحاد الأوروبي ) بإصلاح قانون العقوبات وعلى وجه الخصوص إلى إلغاء المادة 230 التي تعاقب المثلية بالسجن ثلاث سنوات، وهو ما يتعارض مع المبادئ الدستورية التي تنصّ على عدم التمييز وعلى حماية الحياة الخاصّة؛ وترحّب بتغيير قانون المخدرات 1992-1952 واستبدالها بقانون جديد تفضل الوقاية على حساب القمع ويضع عقوبات بديلة لإعادة تأهيل وإدماج مدمني المخدرات، تشكل خطوة نحو مواءمة التشريع التونسي للمعايير الدولية.

هذه التوصيات التي يبدو أنّها تطبّق حرفيّا تدفعنا إلى التّساؤل عن مدى صحّة الخطاب الذّي يتحدّث عن مسار تحديثيّ حقيقيّ في صلب المجتمع التونسي في الدّاخل في حين أنّ الأمر من خلال هذه الوثيقة ووثائق أخرى كثيرة لا يعدو أن يكون تنفيذا لوصايا الخارج. وهنا يصبح التّساؤل أيضا عن مدى تواؤم هذه التّشريعات والقوانين المدعوّ إليها مع الحركة الخفيّة للمجتمع والتي لا تعلن عن نفسها دائما بوضوح فهي حركة معقّدة متشعّبة متشابكة لا ندري ماذا يمكن أن تنتج في النّهاية وإن كانت قراءة التّاريخ تعلّمنا أنّ كلّ القوانين القسريّة لم تنتج كائنا حرّا بقدر ما أنتج كائنا متشظيا غير متصالح مع ذاته ولا يعيش التناغم والامتلاء المحقّق للسّعادة في الوجود.

وإذا كانت هذه التشريعات لا تعبّر عن حاجة اجتماعيّة ووجوديّة حقيقيّة يطلبها المجتمع لتحقيق عيشه المشترك المأمول فيناضل ويخرج للتّظاهر من أجلها ويحدّد مصيره بوجودها فهذا يعني أنّها تحوّلت إلى "سلعة تشريعيّة " " يروّج لها من قبل مجموعة صغيرة داخل المجتمع تدّعي أنّها " تقوده إلى جنّة المساواة في الإرث بالسّلاسل " وتخلق له رغبات وهميّة يتمّ إشباعها عبر "الفتاوى الدّينيّة" تماما كما يحدث في اقتصاد السّوق حيث يتمّ الترويج للسّلعة بخلق الحاجة الوهميّة إليها وبإحداث البروباغندا الكافية كي تتحوّل إلى رغبة حقيقيّة.

هل كنّا فعلا بحاجة إلى إثارة مسألة المساواة في الإرث في الوقت الرّاهن؟ وهل أنّ الأرضيّة الثقافيّة والاجتماعيّة والنفسيّة للمجتمع مهيّأة في إطار سياق تاريخي كامل من التّحديث الحقيقي المتصل بالتّعليم وترسيخ قيمة المعرفة والفهم الصّحيح للدّين باعتبارة أنسنة للإنسان ودفاعا عنه ضدّ كلّ مظاهر الظّلم والتّمييز والتّأسيس لعدالة اجتماعيّة حقيقيّة لا تفاوت فيها مجحف بين الجهات وبين القوى الاجتماعيّة لطرح هذه القضيّة؟

الوثيقة تؤكّد أنّ الطّرح كان استجابة للخارج أكثر ممّن هو للدّاخل. فالنّاس الذّين انتفضوا منذ 2011 إلى 2017 مرورا بجمنة والكامور ومانيش مسامح لم يطرحوا مطلقا مسألة المساواة في الإرث بل كانت مطالبهم المساواة في توزيع الثّروة وهنا نتبيّن دور الدعاية والطّرق الإعلامي في تحويل أمر الإرث إلى "ثورة" تاريخيّة لم تشهدها تونس من قبل وإلى لحظة فارقة في تاريخ تونس الحديثة مقابل الصّمت عمّا يطرحه الشّارع وتقتضيه اللّحظة.

لا ننكر أنّ الأمر كان يمكن أن يكون لحظة فارقة لو اتّصل بقرارات ثوريّة تتعلّق بإصلاحات جوهريّة في الاقتصاد والتعليم (بوّابة التقدّم الكبرى) وفي مجالات الصحّة والفلاحة (في وثيقة الاتّحاد الأوروبي توصيات بالاهتمام بفلاحتنا أيضا) وفي مجال تشغيل الشّباب الذّي يعيش كلّ أنواع اليأس وأبرزها هذه الأيّام "اليأس الانتخابي" وفي مجالات مقاومة الفساد الذّي دعا إليه أيضا الاتّحاد الأوروبي وفي مجال الثّقافة غير المثقّفة التي نعيش وفي مجال اللّغة أيضا (من الطّرائف أن يدعو الاتّحاد الأوروبي تونس في آخر نقطة في وثيقته إلى الاهتمام باللّغة العربيّة. وهي من المضحكات المبكيات حيث كان ينتظر من الحكومة التونسيّة أن تفرض ذلك كما تفرض أشياء كثيرة أخرى. لكن يبدو أنّنا ضيّعنا لحظة الفرض والرّفض).

الاتّحاد الأوروبي يوصينا بكلّ شيء. بأن نهتمّ بحياتنا في كلّ مجالاتها. بوجودنا. بحضورنا في العالم الذّي يضبط ملامحه وفق تصوّراته التي نجمت عن قرون من الثّورات الفكريّة والفيزيائيّة والتكنولوجيّة الرّقميّة. يحدّد طريقة فهمنا للإسلام ويريده إسلاما مخفّفا لا ينتج إرهابيين ويقدّم حلولا جاهزة ومسلعنة كأقراص مهدّئة ويضبط ملامح مجتمعنا وثقافتنا ويرسم وجوهنا التي امّحت في تاريخ الهدر الطّويل كما يريدها هو: وجوه متسامحة منفتحة وعقلانيّة.

وبمنطق السياسة البراغماتي لا يمكن اتّهام الاتّحاد الأوروبي. فهو يتحدّث عن مساعدات إلى تونس ويضع شروطا لهذه المساعدات وهو يرى أن لا خيار لتونس للخروج من مأزقها غير تبني هذه التصوّرات اللّيبيراليّة في الاقتصاد والمجتمع كما في السّياسة. ولعلّ الليبيراليّة مرحلة لا بدّ من عبورها في تاريخنا الحديث.

ولكنّ في المقابل يجوز لنا أن نتّهم طبقة سياسيّة محليّة تتعامل مع هذه الشّروط بمنطق غنائميّ فلا تتوانى عن الاستجابة البافلوفيّة لهذه الشّروط والاستثمار في الدّين من ذلك الدّعوة إلى "تحرير" الإسلام من "الأحكام غير العادلة فيه" بوضع المقترحات واستنباط الفتاوى والتشريعات التي تحوّله إلى إسلام لايت قابل للتّرويج دون أن يشكّل خطرا(هنا تقمّص لفهم غربيّ استشراقيّ مقيت للإسلام يربطه بالعنف والإرهاب وبالظّلم وعدم المساواة وهو طرح لم يجد كثيرا من الأطروحات المضادة التي تردّ عليه باستثناء ما قام به ادوارد سعيد وغيره في نقد الاستشراق) وهذه الاستجابة لا تخلو من غايات نفعيّة ضيّقة ضيق الرّؤية السياسيّة لكثير من محترفي السّياسة هنا. فالغاية أحيانا لا تعدو أن تكون إرضاء لشرائح من النّاخبين أو توريطا لطرف وإسقاطه سياسيّا او تخليد اسم في التاريخ على غرار الزّعيم وغير ذلك من مكائد السّاسة.

ولعلّ "السّوق الانتخابيّة" كما يراها البعض تمثّل أحد أهمّ ما يشرّع الاجتراء في الإفتاء لإرضاء من انسحبوا بعد خيبات التّوافق واتّهام من عوّلوا عليهم بالخيانة والتسويف.

وفي خضمّ كلّ هذا تظلّ القضايا الكبرى عالقة وتظلّ الأسئلة الكبرى هي بداية الإدراك:

ـ إلى متى سنظلّ نستورد الحلول الجاهزة والتصوّرات والرّؤى المتعلّقة بمصيرنا ووجودنا الخاصّ؟

ـ إلى متى سنظلّ نفتقد إلى رؤية واضحة في علاقتنا بالدّين في ظلّ وجود فرقتين متباينتين: الأوصياء على الإسلام والأوصياء على العلمانية.

ـ إلى أيّ مدى سيظلّ العقل معطّبا غير قادر على مناقشة قضايانا بالعمق الكافي الذّي يتيح لنا بناء رؤيتنا الخاصّة لوجودنا دون وصاية وبرمجة آلية مسبقة يحوّلها البعض في إطار البروباغاندا السياسيّة إلى "ثورة تاريخيّة"؟

ـ متى تتحرّر المرأة من التّوظيف السياسي لها؟

هذه الوثيقة تبيّن أنّ معركتنا الأهمّ هي معركتنا مع أنفسنا من أجل تحريرها من إرث الخنوع للآخر الذّي يعدّ أنفاسنا ويوتّر علاقتنا مع رموزنا المشتركة إلى حدّ أنّ بعض المحسوبين على الدّين صاروا يخجلون من الدّفاع عن الدّين ويجدون ما يكفي من التبريرات و "الفتاوى المسلعنة" لتبرير كلّ شيء بكلّ شيء.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات