لو تستمرّ هجرة الشباب عبر البحر إلى زمن آخر فإنّ الوطن سيفرغ من الشّباب. الشّباب الذي يرتمي في البحر هو في أغلبه من الفئات التي تشكّل أحزمة انفجار اجتماعيّة عند اشتداد الأزمات وهو "حطب" قابل للاشتعال في أيّ لحظة. هو جمهور من الذّين فقدوا كلّ إحساس بالانتماء والذين استوت عندهم الأضداد ولم يعد عندهم ما يخسرونه هنا. احترقت لديهم أوراق كثيرة قبل أن يقرّروا أن " يحرقوا ".
والأهم احتراق علاقتهم بالوطن نهائيا.
هذه الفئة هي الأكثر إزعاجا للسلطة فهي الفئة التي تحرّكت في 17 ديسمبر وقبله وبعده وانفجرت في جهات مختلفة من الجمهورية وهي عينها التي ظلّت جيشا احتياطيّا من العاطلين عن الحياة والأمل يثير غبارا كثيرا في كلّ معركة .
تخيّلوا فقط استمرار هذه الهجرة التي تقول بعض الأرقام إنّها تبلغ الآلاف من جهات كثيرة. نزيف صامت وسريّ وقاتل. نزيف سيفرغ أوردة الوطن وشرايينه من طاقاته الفاعلة ويحوّل الوطن إلى جزيرة مهجورة تسكنها " الأشباح " و " الأرواح الشريرة " التي لا تجد عناء في التخلّص من عبء الشّباب المتزايد بالإلقاء به في اليمّ ولا تجد حرجا في امتصاص عقول من تبقّى هنا وإفراغ الجمجمة من كلّ وعي بالذّات وبالحياة و" حرق " كلّ قدرة على التّفكير والفعل الحرّالخلّاق.
إفراغ الجمجمة لمن تبقّى يتمّ يوميّا عبر طوفان إعلاميّ هائل لم يعد مصدره التلفاز فحسب بل الفيديوهات المباشرة التي تصادفنا على وسائل التواصل الاجتماعي والتي تنقل صورة سوداء قاتمة عن الوطن وتغرق الناس في أسرار الأفراد وحكاياتهم وسقطاتهم وخطايهم وزلّاتهم والتي يقع تقديمها بطريقة توهم أنّ الوطن صار جحيما لا يطاق .. امتصاص رهيب لرغبة الحياة فيه فلا يبقى سوى الخواء والشّذوذ والشّعور بالخجل من الانتماء والإحساس الدّائم بأنّ شيئا ما خطيرا سيحدث.
" شيء خطير سيحدث " هكذا هجست العجوز المسنّة في القصّة القصيرة لغابريال غارسيا ماركيز لابنيها. وصارت الهواجس حقيقة حين تناقل الناس في القرية الخبر وصدّقوه. وهجر الجميع القرية وكانوا " يهربون بذعر رهيب وحقيقي، كما لو أنه هروب من حرب ". هكذا كتب ماركيز.
من يصنع كلّ هذا الذعر ؟ ولم يهربون كمن يهرب من حرب؟
إفراغ الوطن وإفراغ العقول وإفراغ النفوس من الأمل أمور متلازمة تصبّ في مجرى واحد: إغراق الجميع في البحر الأسود لليأس والسّلبيّة وتحويل الإقامة في الوطن إلى جحيم وإلى كره يوميّ للذّات وللآخر ولكلّ أشكال الأنظمة والمؤسّسات أمام التخبط في إيجاد سبيل للخروج من النّفق.
فكلّ ما يروج يؤكد أنّ الثقب الأسود ابتلع كثيرا من الأحلام القديمة و القادمة. أخبار الميزانية الجديدة وانهيار قيمة الدينار والسّعي إلى تعويمه وتخفيض الدّعم في المحروقات وفي كتلة الأجور والتفويت في المؤسّسات العمومية وتقديم السيولة للبنوك دون إنتاج حقيقي والتضخم المالي واستتباعاته وسوء التصرّف المالي وعدم مواجهة الناس بالحقيقة كلّها تؤذن بأنّ أمرا ما في الأفق قد يحدث وأنّ الواقع بعمق إشكالاته ومآزقه قد تجاوز الجميع وسط غياب القدرة على اتّخاذ القرارات الشّجاعة والعدالة في مواجهة المتسبّبين في الخراب والاستسلام للتبعية المذلّة وللتدخّل السّافر في شؤوننا الداخليّة والرّغبة في تمرير ما يستجيب من قوانين لرغبات ومصالح أقليّة متحكّمة بل عائلية أحيانا.
وسط هذا الانحباس تصبح الإقامة انتحارا والبقاء احتقارا للذات التي صارت تفضّل أن تكون طعاما للحوت على أن تموت هنا وهي تشاهد " الحرب " السريّة للكبار من أجل ابتلاع أكبر للثروة ويصبح الهروب هو الحلّ. هروب الشّباب خارج الوطن وسط العيون نصف المغمضة نصف المفتوحة ووسط التّواطئ الصّامت والمريب والمخزي.
ليرحل عنّا هذا الشّباب الذي قال لنا يوما ارحل…
ارحلوا أمامكم البحر !!!
إن بقيتم هنا فسيحدث شيء خطير.. هكذا قالت عجوز ماركيز…
وعليكم أن تصدّقوا النبوءة..
أليس الأفضل أن نرحل جميعا؟
أو أن نتعلم اليوقا.. لنبقى متربعين ومغمضي العينين عمّا يحدث ..