" لقد كثر شاكوك وقلّ شاكروك فإمّا عدلت وإمّا اعتزلت. والسّلام "
خطاب برهان بسيس يكشف وهن " العقل " السياسي في تونس اليوم. فبين دفاعه عن المنظومة السابقة التي لم تنجح سوى في إرباك قيم المجتمع وإضعاف مؤسّسة الأسرة وتهميش المعرفة وتشريع اللّصوصيّة وبين ادّعاءات المحافظة اليوم بالحديث عن انتمائه إلى حزب سياسي محافظ مسافة تبيّن خبطا في الإدراك، وبين استحضار مثال الحجّاج بن يوسف الثقفي وادّعاءات الدّيمقراطيّة مسافة تؤكّد ارتباك هذا العقل ووهنه وعجزه عن امتلاك رؤية واضحة.
إنّه النموذج الأوفى لاضطراب العقل السياسي لدى " سياسيّ " يسعى إلى أن يقوم بدور الفاعل أو المنظّر السياسي فتتداخل لديه المرجعيّات والمفاهيم تداخلا رهيبا فيخبط خبط عشواء يسقطه أحيانا في هاوية اللّاعقلانية السياسية رغم التقنّع بالعقلانيّة وذلك بالسّعي إلى إثارة المتلقي بمخاطبة مخاوفه وغرائزه وانفعالاته وعاطفته، لا مخاطبة عقله.
إنّ استدعاء نموذج الحجّاج بن يوسف الثقفي دون غيرها من النّماذج دليل على عقل سياسيّ تسلّطي في أعماقه قد يغفو أحيانا لكنّه سرعان ما يستيقظ ليذكّر بطبع أسلافه. ذلك أنّ " استعارة " عقل الحجّاج في ظرف غير الظّرف وإن أوهم المتكلّم بتشابه الظّروف ( تونس اليوم هي العراق في فترة الحجّاج حسب قوله؟؟؟ ) يدلّ على عجز عن قراءة عميقة للماضي والحاضر وعن تقديم تصوّرات جديدة وصنع نماذج جديدة وليدة عصرها.
إنّه عقل معطّب يستعيد بطريقة ماضويّة لحظة انقضت ويسعى إلى إسقاطها على حاضر متحوّل ومختلف وهو يريد بذلك مخاطبة وعي جمعيّ لايزال يستبطن في أعماقه نموذج الحجّاج منقذا من " النّفاق والشّقاق " ولايزال يحتفي بتسلّط الفرد طريقة وحيدة للنّجاة.
هذا الخطاب يبقي على بنية ذهنيّة تحنّطت على امتداد قرون ويستغلّها استغلالا فاضحا لتشويه الحريّة وبيان " غربتها " عن واقعنا من خلال تشبيهها بالفتاة الجميلة التي انفلتت بعد فرار أبيها وصار " ماكياجها " قبيحا منفّرا شبيها بماكياج بائعات الهوى.
إنّه التّرذيل المقصود للحريّة لتبرير " فاشيّة " متمكّنة في الدّاخل تتقنّع بقناع القانون. ذلك أنّ تطبيق القانون يحتاج أوّلا إلى انضباط " الأب " له. إلى انضباط الحكّام والسياسيين والإعلاميين له أوّلا. إلى عدم خرقهم للدّستور. إلى عدم سطوهم على القوانين.. ليكونوا المثال للأبناء والبنات كي لا يتحوّلن في أوّل مناسبة فوضى إلى " بائعات هوى " كفتاة المتكلّم..
هذه الصّور التّمثيليّة التي قدّمها أساسها المغالطة للدّفاع عن الأب الفار الذّي ترك ابنته الجميلة بين أيدي " وحوش الثّورة ". الأب الحقيقي يموت ولا يقبل الفرار. إنّه التّهافت الحقيقي لخطاب سقيم لا يستقيم.
فضلا عن ذلك، فإنّ حديثه عن حاجة تونس اليوم إلى " ماكياج جميل " لإخفاء القبح يدلّ على أنّ المتكلّم هو وليد ثقافة التّجميل التي أنفقت عليها المنظومة القديمة المليارات في وكالة الاتّصال الخارجي لتجميل صورة " الأب " كذبا بشراء الذّمم والأقلام وتجميل صورة " الفتاة " كذبا. تونس الفتاة التي كانت تعيش أنواع القهر والقمع والتي يبقيها " الأب " تحت سطوته كي لا تنكشف حقيقتها للعيان.
أمّا المقارنة التي عقدها بين شباب الثمانينات والشباب اليوم فيدلّ على عزلة عن الواقع وجهل بالشّباب الذّي يبدع يوميّا. يكفي أن تقرأ وتسمع وتشاهد الإعمال الفنية التي ينتجها الشّباب كي تدرك أنّ الحريّة قد أطلقت أصواتا جميلة وعميقة غير أنّ الإبداعات الحقيقيّة لا تصل بلاتوات التّلفاز التي تحتكرها رموز الرّداءة المروّجة لثقافة الإسفاف والابتذال اليومي.
هذا الخطاب يكشف خللا بنيويّا عميقا داخل " العقل " السياسيّ ( إن صحّت تسميته عقلا ) الذي لم يكف عن ممارسة " غطرسته " المعرفية وقطيعته مع الواقع وادّعاءاته التي تعيد إنتاج نفس آليات التّفكير ونفس النّظام المعرفي وتستعيد تاريخا من الفشل في الاختيارات والتصوّرات ومن التّآمر على إرادة الشّعب الذّي يتمّ الاحتيال عليه جهرا وفي وضح النّهار دون احترام لإرادته.
أزمة العقل السياسي في تونس كونه عقل تآمري يبحث بكلّ الطرق المشروعة وغير المشروعة عن تسجيل نقاط لصالحه بعيدا عن كلّ معاني النّخوة والشّجاعة السياسية. وهو عقل يصل أحيانا إلى درجة من الصّفاقة تفوق كلّ تصوّر خاصّة حين يتعلّق الأمر بحماية موقعه ويكون آنذاك وفي سياق انشغاله بدوام بقائه قد اعتاد النّظر إلى الجمهور كقطيع قابل للانقياد فيعمل على إخفاء إخفاقاته برفع الصّوت والصّراخ والبروباغندا.
إنّها اللّاعقلانية السياسيّة التي تنتجها دولة لاتزال تبحث عن عقل لها لا يمكن مطلقا أن يمثّله من ساهموا في إنتاج الماضي ومن يحاولون عبثا مواصلة تأصيل الاستبداد بالتّعامل الانتقائي الماكر مع الماضي والتّعامل الانتهازي مع الحداثة لأنّ الأمر يقتضي البتر مع جذور هذا العقل السياسيّ الواهن: عقل انتهازيّ متناقض متغطرس ومتخبّط دون رؤية.