بين الاصبع المقطوع والعجوز المغتصبة وتنورة حبيبة
يبدأ الأمر بانتهاك الجسد منذ البداية. بأشكال مختلفة من الانتهاك. يبدأ بضرب يد صغيرة في قسم هو أشبه بالسّجن ومن معلّمة هي أشبه بالسجّان، ويصل إلى حدّ بيع الأجساد المهاجرة في أسواق النّخاسة الجديدة.
كان يمكن أن تتحوّل يد الطّفلة التي ضربتها المعلّمة ممّا انجرّ عنه قطع اصبعها إلى يد مبدعة.ولكنّ ضربها حوّلها إلى يد معطّبة، عطب العقل، عطب الرّوح هنا. هكذا فعلت المعلّمة الموتورة بدورها لتلميذتها الأسبوع الفارط.
لقد نقلت إليها بقطع اصبعها حجم العنف واحتقار الجسد الذّي تحمله داخلها فقطعت بذلك كلّ علاقة احترام ممكنة بين الطّفلة وجسدها. وسترى الطّفلة في جسدها دائما موضوعا للعقاب لا للحريّة المؤسّسة للذّات المتوازنة، للذّات المبدعة الخلّاقة.
بهذا العنف القاطع تنتفي كلّ علاقة سويّة. إنّه الاغتراب أمام الجسد حين يصبح موطن عقاب وألم.
من هنا يبدا الجسد الموتور في التشكّل. من الصّدمة البسيكولوجيّة الأولى يبدأ الإحساس بالهوان وبعدم قيمة الجسد المهان وبسقوط الحدود الأخلاقيّة التي تمنع إهانته. وتتحوّل العلاقة معه إلى علاقة كراهية أحيانا إلى درجة رفضه ومحاولة إلغائه وتقزيمه وحجبه كليّا أو علاقة " وله " تفضي إلى الاحتفاء المبالغ فيه به واستعراضه في عرائه وفي كلتا الحالتين تطرّف في الصّلة تدلّ على أزمة علاقة به.
هو الجسد الحائر بين ثقافة التّسليع التي رسّخها اقتصاد السّوق اليوم وبين إرث ثقافيّ تحكمنا به علاقة ارتياب في ما يتعلّق بالجسد. علاقة مشوّهة متناقضة متوتّرة. وفي الحالتين لا يحظى الجسد بالاحترام الكافي كي نتصالح معه ونتناغم وفق رؤية قوامها الاعتراف به لا كوعاء أو كسلعة أو كوسيلة تنفيس غضبي عن إحساس بالهوان بل كوجود للفرح ومساحة للحياة.
محنتنا اليوم أنّ الجسد الذّي يفترض أن تتيح له الحريّة فرصة استعادة ذاته صار أكثر ارتباكا في علاقته بذاته والآخر. فحجم الدّمار النفسي والخراب القيمي المتغلغل لدى فئات لم تحم الدّولة في عقود سابقة أجسادها من الفقر والهوان والجهل والهدر بأنواعه جعل جسد الآخرلديها أكثر استباحة إلى الحدّ الذّي تتحوّل معه إلى " مربّعات للقتل " وممارسة " الجنون ". وما قتل العجوز بعد اغتصابها منذ أسبوع أيضا إلّا مثال على الاستهانة بالجسد واستباحته إلى حدّ لا يمكن تصديقه. إنّه السّقوط الكليّ للمعايير الأخلاقيّة الحامية للجسد.
ارتباك العلاقة بالجسد وعدم التّناغم معه نتبيّنها أيضا في الاستعراض المشهدي للجسد أمام الموت حيث يصبح عدم احترام الطّقوس سواء باللباس غير المحتشم كما تجلّى في أعين الكثيرين في تنورة حبيبة الغريبي أو بنشر الصورالمبتسمة وسط الجثث كما رأينا في مناسبات كثيرة وغيرها، يصبح دالا على مظاهر الانفصام العنيف وغياب المشروع الأخلاقي والوجودي في رؤيتنا إلى ذواتنا في أبعادها المختلفة.
إنّ الجسد المطرود والمقصيّ والمنهار هو الجسد الذّي يفضي إلى انهيار للمجتمع. ولا يكمن الحلّ في تعليبه وتسويقه لأنّهما شكلان آخران لطرد الجسد من معناه. وهو الطّرد الذّي أسّست له ثقافة كاملة استهلاكية مغتربة استعراضيّة ادّعت الدّفاع عن الجسد فعمّقت غربته بأن جعلته خارج الزّمان والمكان يبحث عن جنّته فيراها مرّة في العراء ويراها أخرى في الخفاء.
إنّ الأمر يقتضي أن نعيد ترتيب علاقتنا بالجسد وذلك باحترامه أوّلا كمعنى. في البلدان التي تحترم الإنسان يبدؤون بتعليم الأطفال بألّا يسمحوا لأحد بلمس أجسادهم فالجسد هو الماهيّة وهو المعنى وهو الوجود. ولمسه انتهاك لهذا الوجود. ضرب طفل إلى حدّ إصابته بعاهة هو بداية انهيار للمعنى. اغتصاب عجوز وقتلها هو انهيار كامل للمعنى.
طمأنة الجسد الحائر وحمايته بما يكفي داخل حريّته هو السبيل لتحقيق توازنه وتخطّيه لغربته فلا يرتمي آنذاك في الحرق بالنار أو الحرق في الماء في شكل لتعنيف الذّات ومعاقبتها ولا يجرؤ آنذاك على خرق حرية الآخر واستباحة جسده في شكل لتعنيف الآخر.
,الجديدة وبينهما برفض تسليع الجسد النّسائي الذي يغتال كلّ معنى جميل في المرأة والحياة.