في شريط " السقا مات " الذي أنتجه يوسف شاهين وأخرجه صلاح أبو سيف عن رواية ليوسف السّباعي يحمد البطل اللّه في لحظة حبّ لأنّه خلقه سقّاء كي يروي شجرة التّمر حنّة التي زرعتها حبيبته بيديها. لم يطلب شيئا غير الحبّ وهو يروي الأرض والنّاس. ولكنّ الموت لم يرحمه فأخذ منه حبّه.
ماتت حبيبته وهي تلد ابنه واستمرّ هو بلا قلب يسقي الّناس ويقف أمام الصّنبور الحكومي الذي يشرف عليه موظّف حكومي جلف ليتزوّد بالماء ويوزّعه على أهل الحيّ من الأغنياء والفقراء. وفي لحظة وعي حادّ بالموت يصرخ في وجه أمينة رزق التي تسعى إلى إخراجه من حزنه لتجديد حياته لإنّ الحيّ أولى من الميّت: "ومن قال إنّي حيّ؟ ".
المفارقة في الفيلم أنّ السقّاء الذي يحمل الماء ليروي الناس وهو ميّت المشاعر يلتقي بالحانوتي الذي يمتهن دفن الموتى ويسير في كلّ الجنائز لكنّه ممتلئ بالحياة والمشاعر مقبل على اللذّة هازئ في علاقته بالموت " فالسّائرون في الجنازات لا يبكون المرحوم بل يبكون أنفسهم خوفا من الموت لذلك يبكون مقدّما.. وهناك من يظلّ يبكي حتّى يموت فعلا.. الدنيا ملعون أبوها تغور وقت ماهي عاوزه.. لكن مثلما الموت ياخذ حقّه مني.. لازم آخذ حقي من الدّنيا ".
هي حكمة " الحانوتي " الذي يمثّل الوجه الحقيقي للسقّا: ذلك الذي يروي النفوس ويهبها السّعادة ويشحذ فيها الأمل والرّغبة في الحياة.
وهي فلسفة الحانوتي الذّي جعلت السقّا يتجاوز موته الرمزي ليعود خطوة إلى الحياة قبل أن يفجع في موت " الحانوتي " نفسه الذي صار صديقا فينفجر في وجه الموت منهارا.
قبل أن يستعيد ذاته بتعيينه شيخ السقّائين وفرحة ابنه الذي يوصيه بألّا يموت وهو يذكر له هذه الأبيات:
أبوك السقّا مـــات
بيمشي في الجنازات
ويـوصـــل الأمـــــوات
أبـــوك السـقــا مـــات.
ويموت السقاء في الرواية ولا يموت في الفيلم وكأنّ صلاح أبو سيف يريد قدرا آخر غير الموت.
كان لا بدّ أن أستعيد الشّريط القديم وأنا أشاهد صور زملائي الذّين وافاهم الأجل في أقسامهم خلال أسبوع. وشعرت بالحاجة إلى أن نتبنّى فلسفة الحانوتي ونحن نغرق في جدّ الحياة متناسين قلوبنا التي قد تصمت في كلّ لحظة. فنحن بدورنا " سقّاؤون ". نسقي شجرة " التّمر حنّة " بكلّ قلوبنا ونواصل السّقيا حتّى وإن ماتت قلوبنا وننسى في كثير من الأحيان حقّنا في الدّنيا كما يقول الحانوتي الحكيم للسقّاء.
" لا تنس حقّك في الدّنيا " هي الجملة التي هزّت كيان السقّاء وهي الجملة التي يحتاجها المدرّس وهو يعيش " موته المعنوي " وسط الرّتابة القاتلة وانهيار القيم ومحو رمزيّة المعلّم وتراجع قيمة المعرفة وتداعي الفضاءات التعليمية واكتظاظ الأقسام وعدوانيّة المجتمع ونكران الجميل وتهميش التعليم المجاني والتهافت على الرّبح بالاتّجاه إلى الخوصصة وفقدان الرّؤية وضياع البوصلة التي تقود إلى فهم وظيفة التّعليم داخل مجتمع أشكل فيه كلّ شيء.
" لا تنس حقّك في الدّنيا " فأنت أقرب إلى أن تصير زاهدا فيها بعد أن أخذتك مهنة التّعليم منها إلى شجرة " تمر حنة " تسقيها كي لا يصيها الذّبول وكم أصابها الذّبول وسط تسلّط " الموظّف الحكومي " المشرف على " الصّنبور " وكم عانيت من عجرفته وتحكّمه وجوره وكم تحمّلت من الأذى كي تواصل رعاية الشّجرة التي ترى فيها ذاتك وروحك وهي تنمو وتكبر. وكم شعرت بالغبن وهو يمنّ عليك بالقليل أو وهو يقلّل من شأنك ويضحك على ذقنك.
في لحظة ما كنا مثل البطل. حمدنا الله لأنّنا كنّا " سقّائيين " ولم نطلب شيئا غير التّقدير ونحن نروي العقول والأرواح. كنّا سعداء بدورنا ولكنّ الخيبة كانت أكبر والنّكران كان أوسع والموت كان أسرع.
هذا الموت نريده استعادة لمعنى وجودنا وليس انتهازا لمطلبية لم نكن نحتاج الموت للتّأكيد عليها.
واستعادة معنى الوجود لا يكون بمنحة مشقة قد لا تتجاوز الخمسين دينارا كغيرها من المنح. إنّها مراجعة كليّة لمنزلة الأستاذ ووظيفته وفهمه لدوره وللمعنى الذي يمثّله داخل المجتمع.
ليس كالموت أستاذا قادرا على تعليمنا كيف نحيا.
وليس كالأستاذ كائنا قادرا على فهم الموت وإنتاج المعنى الخلّاق المؤسّس منه.