لست ممّن يتوهّمون أنّ هذه الانتخابات ستغيّر وجه البلاد وحال النّاس بضربة سحريّة، لكنّني مع ذلك أعتبر أنّها خطوة أخرى في طريق المستقبل الّذي سقط على أعتابه الشّهداء وضحّت من أجله أجيال وأجيال.
الّذين حجّتهم في المقاطعة أنّ الانتخابات سوف يحدّد نتيجتها الإعلام والمال الفاسد، أقول لهم إنّه في العالم أجمع وفي كلّ الدّيموقراطيّات يلعب المال والإعلام الفاسد دوره، لأنّه يعرف رهاناته ومعاركه ولا يغفل عنها، هذا جزء من اللّعبة أو المعركة الدّيموقراطيّة، وبإمكانك أن تعتبره نوعا من التّزوير النّاعم إذا كنت تفضّل اللّعب مع الملائكة،
لكنّك لن تجد على وجه الأرض ملائكة تلعب معهم، ستجد بشرا تتناقض مصالحهم وتتدافع وعليك أن تختار أسلحتك… وسلاحنا هو أن ننشر الوعي بين الناس لمقاومة تأثير ذلك الإعلام الفاسد والمال الفاسد والتّقليل منه قدر ما نستطيع وبما نستطيع، ونحن نستطيع الكثير لو كنّا نعقل…
الّذين يقولون إنّه سوف يكون هناك إعادة استنساخ لنفس المشهد الحاليّ، بسيطرة النّهضة والنّداء، أقول له: في العالم كلّه تجد حزبين كبيرين يتنافسان على الأغلبيّة، لكنّ بقيّة الأحزاب ليست بالضرورة ديكورا، بل لها دورها في بناء التّحالفات وممارسة الضّغط وترجيح الكفّة بحسب ما يسمح وزنها، وهنا يأتي دورك…
انتخب وأعط فرصة أكبر لتلك القوى المعدّلة إذا كانت مشكلتك مع النّهضة والنّداء معا…
الّذين يقولون إنّ كلّ الأحزاب وكلّ رجال السّياسة فاسدون وسيّئون ووو… أقول لهم: هذا خطاب الجرائد الصفراء لبن علي، كانت تجمع الكلّ في سلّة واحدة متعفّنة لترذيل السياسة والأحزاب ولتقدّم المبرّر الدّائم على حالة الديكتاتورية…
وحتّى ولو صحّ ذلك، لم تخترع البشرية إلى اليوم نظاما أصلح من الدّيموقراطيّة، وفي الدّيموقراطية ليس الاختيار دائما بين الصالح والفاسد، الشّعوب تضطرّ أحيانا إلى الاختيار بين السّيئ والأقلّ سوءا وبين الفاسد والأقلّ فسادا، لأنّ أيّة مقاطعة في هذه الشّروط تعني آليّا تغليب كفّة الأكثر فسادا والأكثر سوءا…
الحالات العاطفيّة والانفعالات لا تبني البلدان، ولا تطهّرنا من خطيئة المشاركة اللاّواعية في خيانة هذا البلد…
تونس اليوم ليست فرنسا ولا السويد، نحن بلد على صفيح ساخن، لا يحتمل الدّلال والتّمنّع، انتخاباتهم من أجل الرّفاهة وانتخاباتنا من أجل تثبيت الحالة الديموقراطية ومن أجل الدّفاع عن حقنا في المواطنة وقطع الطّريق أمام الارتكاسات الّتي مازالت ممكنة وقائمة ومتربّصة.
باختصار: لا يوجد شيء اسمه مقاطعة في الانتخابات، المقاطعة هي في الحقيقة مشاركة سلبيّة وغير مباشرة في تغليب كفّة من لا ترضاهم… المقاطعة والحياد وهم كبيييير تروّج له القوى الفاسدة نفسها لأنّها تخدمها في العمق… قدرك في أيّ انتخابات أن تكون مشاركا ومسؤولا عن مآلات الأمور، بإرادتك أو بغير إرادتك، فكن مواطنا حرّا، كي تتحمّل على الأقلّ نتيجة اختيارك لا نتيجة ما فرض باسمك.