نحن لا نعادي لجنة الحريات ولا نناقش تفصيلات ما ذهبت إليه وما اقترحته بل منزله في إطار الظرف الاقتصادي الاجتماعي والسياسي الذي تمر به البلاد.
أن الحديث عن الميراث والأسلوب فيه بين الذكر والأنثى كموضوع المثلية وموضوع العدة هما مواضيع لا تمت لاحتياجات المواطنين التونسي في هذه اللحظة التاريخية اين تسود البطالة عند الشباب وتغيب التنمية وتسود المحسوبية والرشوة والفساد. في بلاد خيراتها كثيرة ولكن توزيع الثروات غير عادل وأهل العلم منبوذون.
كيف في مثل هذه الظروف البائسة بؤس وضعية الفقراء وارتفاع الأسعار وانخفاض وتدني المقدرة الشرائية للمواطنين الى مستويات غير مسبوقة وتدني قيمة الدينار أمام العملات الأجنبية وغياب الإنتاج وفساد الإدارة وسيادة اللوبيات وضياع هبة الدولة وعدم انخراطها في الإصلاحات الاقتصادية الأساسية بينما بالعكس تنخرط في منعرج خطير للمديونية وخضوعها لاملاءات صندوق النقد الدولي الخائنة للوطن.
في هذا الظرف يتنزل علينا من أعلى هرم السلطة مشروع لا علاقة له من قريب أو من بعيد بالواقع الاجتماعي للناس في حين يكون الغرض الوحيد منه الخضوع لاملاءات الأجنبية بعدما ثبت ندخل سفراء عديد الدول الأخرى في ذلك.
النباهة وجه اذا غاب حضر مكانه الاستحمار أو كما يعرفه المفكر الإيراني الشهيد علي شريعتي شهيد الثورة الإيرانية النظيفة قبل أن تؤول إلى أيدي آيات الله الكريهة. قيمته للاختيار، وحريته في الاعتقاد واتخاذ القرار، فيقول :
إن أكبر قيم الإنسان هي تلك التي يبدأ منها بالرفض وعدم التسليم اللذين يتلخصان بكلمة (لا). … لا شك أن من أدرك لذة التمرد والرفض والأخلاقية والنباهة، لن يبدلها بأي شيء، ولن يبيعها بأي ثمن، ولكن ماذا حدث لنا حتى بدلنا ذلك بسهولة ؟ المسألة هو أنه لا نباهة لنا، فنحن لا نستقيم إلا أن علتنا يد أقوى، أو سوط قاس، يظل فوقنا مدى الحياة.
ويطرح بعد ذلك التحفيز الذاتي كحل لمواجهة الجلاد :
إن المعرفة النفسية أو الدراية أو النباهة الموجودة عند الفرد بالنسبة إلى نفسه، هي فوق معرفة الفلسفة والعلم والصنعة، لأن الأخيرة معرفة، وليست (معرفة نفسية) أي ليست الشيء الذي يريني نفسي، فيستخرجني فيعرفني ذاتي، الشيء الذي يلفت انتباهي إلى قدري وقيمتي. فقيمة كل إنسان بقدر إيمانه بنفسه.
وبعد النباهة النفسية الشخصية، يبدأ بالحديث عن نوع ثان من النباهة:
المسألة الثانية التي أسميها (ثقافة)، هي الوعي السياسي بالمعنى الأفلاطوني للسياسة، لا بمعنى الصحف اليومية، بل بالمعنى الأفلاطوني للبحث المنتخب الاختياري. أي شعور الفرد بمرحلة المصير التاريخي والاجتماعي للمجتمع، وعلاقته بالمجتمع والمقدرات الراهنة بالنسبة إليه وإلى مجتمعه، وعلاقته المتقابلة بأبناء شعبه وأمته، والشعور بانضمامه وارتباطه بالمجتمع.
[…] إذًا النباهة نباهتان (نباهة نفسية أو فردية) و(نباهة اجتماعية) … فعدوّي أنا كإنسان، وعدونا نحن كمجتمع إنساني أو عقائدي أو شعبي، كان العدو شخصًا أم أداة، فهو يسلب منا الوعي، ويبدلنا بهما جهلًا وفقرًا وذلًا، وإن كانت على شكل معرفة.
[…] إن الوعي النفسي والنباهة الشخصية هي التي يمكن أن تُشعر الإنسان بما فات منه، وبما يستهلكه العالم منه. كما أن الوعي الاجتماعي هو الذي يمكن أن يشعره بما يجري على مصير مجتمعه في الخفاء.
أما التخلي عن النباهة فهو يؤدي إلى الاستحمار -كما يحب شريعتي أن يسميه-. حيث يقول بأن التخلي عن النباهة سيؤدي بالضرورة إلى ما يقابلها.
وأي دعوة أو دعاية وكلام وتقدم وحضارة وثقافة وقدرة تكون خارجة عن إطار هاتين الدرايتين، فهي ليست إلا تخديرًا للأفكار، وللانصراف عن الإنسانية والاستقلال والحرية. إنه تسخير للإنسان كما يُسخّر الحمار. ومن هنا أطلق عليه اسم (استحمار) … إذًا فمعنى الاستحمار ؛ تزييف ذهن الإنسان ونباهته وشعوره، وحرف مسار النباهة الإنسانية والاجتماعية.
ويضرب مثلًا لتوضيح مفهوم الاستحمار بشكل أكبر:
عندما يشب حريق في بيت، ويدعوك أحدهم للصلاة والتضرع إلى الله، ينبغي عليك أن تعلم أنها دعوة خائن. فكيف لو كانت دعوته إلى عمل آخر أقل شأنًا ؟ فالاهتمام بغير إطفاء الحريق، والانصراف عنه إلى عمل آخر، ماهو إلا استحمار، وإن كان عملًا مقدسًا أو غير مقدس …
تنبه! فالاستحمار قد لا يدعوك إلى القبائح والانحراف بشكل دائم، بل -وعلى العكس- قد يدعوك إلى المحاسن، ليصرفك عن الحقيقة التي يشعر هو بخطرها، كيلا تفكر فيها فتنبهك أنت والناس.
ولا تتوانى طرافة شريعتي عن تقسيم الاستحمار إلى قسمين حيث يفصلها قائلا:
الاستحمار نوعان ؛ استحمار مباشر وغير مباشر. المباشر منه عبارة عن تحريك الأذهان إلى الجهل والغفلة، أو سوق الأذهان إلى الضلال. أما غير المباشر منه فهو عبارة عن إلهاء الأذهان بالحقوق الجزئية البسيطة اللافورية لتنشغل عن المطالبة أو التفكير بالحقوق الأساسية والحياتية الكبيرة والفورية.
في هذا الإطار يكون مشروع تقرير لجنة الحريات استبلاه لشعب بأكمله وتكون بمنطق علي شريعتي نوعا من الاستحمار وتقتضي النباهة رفضه وعدم الانخراط فيه من قريب أو من بعيد دون الدخول في التفصيلات أو الغوص في نقاش ديني بل على العكس وجب قلب المعادلة وتاسيس حوار اقتصادي اجتماعي ذلك ما تقتضيه النباهة في مواجهة الاستحمار.