من يوميّات المبيت الثانويّ

Photo

مبيت المعهد الثّانويّ ببوسالم، dortoir-A تحديدا، كان يشبه ثكنة قديمة من ثكنات الجيش الألمانيّ، أو محطّة خربة، من محطّات القطارات المهجورة، أو معتقلا منسيّا من معتقلات الغولاغ في سيبيريا. بابه الأزرق الضّخم، وصفائح القرميد الباهت على سقفه، تتخلّلها ثقوب تضيق وتتّسع، حين تباغتنا العاصفة، نظلّ نسمع قرقعة مخيفة وصفيرا موجعا ينفذ عبر الشّقوق ويعوي بين الأسرّة الصّدئة.

دخلت السّجن بعد ذلك وشقيت كثيرا وأنا أحاول أن ألعب لعبة الفوارق بينه وبين ذلك المبيت، فلم أهتد إلاّ إلى القليل. مساء الأحد نعود إليه حزانى أذلّاء منكوسي الرّؤوس، يخيّم علينا صمت رماديّ جافّ، تبدأ رحلة المنفى بحصّة التّعذيب في قاعة المراجعة تحت وطأة عصا القيّم المتوتّر باستمرار كأنّه ينتظر شيئا لا يأتي أبدا،

ننظر من النّوافذ فنرى قبالتنا مبيت الفتيات في الجهة الأخرى، هنّ أيضا كئيبات جدّا، ويكنّ في أكثر حالات حزنهنّ مساء الأحد، وحدها الظّلال تتراقص خلف النّوافذ كأشباح حبيسة منذ آلاف السّنين. يسوقنا القيّم بعد ذلك إلى المبيت في صفّ ذليل كالمساجين تماما، ويظلّ يراقبنا من الجانبين، والويل لمن يراه يخرج عن الصّفّ أو يلتفت أو يبتسم أو يوشوش لرفيقه ولا يراعي حرمة ذلك الموكب العظيم. لم يكن المطعم يفتح مساء الأحد، فكان على الجياع أن يناموا جياعا وأن لا يرفعوا العيون إلى أمّهات تركوهنّ دامعات خلف التّلال.

نأوي إلى المبيت ونتفقّد الخزائن المعدنيّة، فنجد بعضها مخلوعا، ويكون القيّم المشرف من يخلعها في أغلب الأحيان لأنّه الوحيد الّذي يملك حقّ الدّخول إليها في النّهار، وتقيّد الحادثة ككلّ مرّة ضدّ مجهول.

نتعثّر بين الحشايا المهترئة المتكدّسة هنا وهناك، ونقف في الصّفّ طويلا كي ندخل إلى الاستراحة أو نغسل أرجلنا المتقرّحة من الصّقيع بماء أشدّ من الصّقيع، ثمّ نندسّ في الفراش كفراخ السّمانى، نطلق عيوننا المشتاقة في ظلام اللّيل تستذكر لحظات الدّفء القليلة الّتي عشناها ليلة السبت في البيت، ونتخيّل كيف مازالت تدور الحياة بدوننا، نحن الصّغار، الّذين انتزعنا من أحضان أمّهاتنا وجدّاتنا كما تنتزع الرّوح من الجسد المسجّى، لنقضي حكما قاسيا في ذلك المعتقل الغريب، لم نكن نعرف حقيقة لماذا كان علينا أن نقضيه.

في الصّباح يوقظوننا منذ السّادسة، كما يوقظ السّجّان المرابيط، بالصّراخ وقرقعة الأحذية على الخزائن، نخرج مع الغلس إلى قاعات المراجعة ونسير صامتين يصفعنا البرد ويجرّح خدودنا بمثل حدّ المواسي، نسير صامتين كأشباح تغادر القبور مع الفجر ليبتلعها ضوء النّهار، نجرّ سلاسل ثقيلة في أرجلنا لا يراها سوانا.

قبيل الثّامنة يأتي التّلاميذ الخارجيّون، يدخلون من الباب الكبير كالملوك، على وجوههم حمرة حنان الأمّهات، ودفء الفراش، ضحكتهم مميّزة دائما ومشاكساتهم وخفّة حركاتهم تستفزّنا بألم شديد، فننظر إليهم كما ينظر اليتامى إلى كسوة الغنيّ يوم العيد، ونظلّ طول الأسبوع، ندفع صخرة الوقت إلى أعلى وننظر إلى الأفق البعيد، إلى ما وراء التّلال والجبال، حالمين بلحظة الخروج من ذلك المعتقل الرّهيب، والعودة إلى أحضان أمّهاتنا الثّكالى... كانت تلك اللّحظة وحدها، ما يجعلنا نتحمّل كلّ تلك الغربة أسبوعا كاملا، بلا فرح وبلا ضحكات وبلا يأس وبلا تفكير جدّيّ في الانتحار...

يوم 6 فيفري 2018 ، لم تعد السّجينتان رحمة السعيدي وسرور هيشري من مبيت تالة إلى حضن الحزينة، فقد حكمت عليهما دولة الغبن والقهر والموت بالإعدام حرقا في مبيت الفتيات، احترقت الفراشتان في صمت، وأصدرت الوزارة بيانا مقتضبا أكّدت فيه أنّه لا شيء يستوجب الانتباه، ولا شيء يربك سير الحياة على التّلفزيون، ثمّ دفنت رمادهما في صدور الأمّهات، وقيّدت الحادثة ضدّ مجهول، إلى روحيهما الغائبتين في أيّام العودة… سلام العاجزين.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات