وهو لا يتعلق بالمحامين فقط...وإنما كذلك بكل المهن الحرة المستقلة عن السلطة...مثل الأطباء والصيادلة والخبراء... والسر المهني يهدف لحماية المواطن والدفاع عن حقوقه المضمونة بالدستور...وعن حقه في محاكمة عادلة....إضافة إلى حمايته من جور اية سلطة ومن ابتزازها لحقوقه بمختلف الاشكال...التي نشاهدها يوميا نحن المحامين مثلا في مهنتنا...وذلك منذ عقود..
ذلك أنه لما يطلع أصحاب تلك المهن على أسرار المواطن الخاصة به ليتمكنو من نصحه واسداء الخدمة له والوقوف إلى جانبه بالنضال على حق من حقوقه...فيجب أن لا يعرضه هذا للإضرار بمصالحه او لجور الاطراف والجهات التي يمكن ان تستغل تلك المعلومات ضده...ايا كان سبب ذلك…
والسر المهني مقدس عند المحامين في تونس وفي العالم ...وبدونه لا معنى لوجود هذه المهنة... فمنذ أن تأسست المحاماة في هذه الربوع منذ اكثر من قرن.. يلتزم به المحامون.... وهم قبل مباشرة مهنتهم يقسمون على الإلتزام به...وبدون هذا القسم لن يباشرو... وكان الأمر كذلك منذ زمن الاستعمار...وفي زمن بورقيبة...وحتى زمن بن علي…
ولكن اليوم وبعد ثورة حرية وكرامة....نجد حكومة ونواب...مشكوك في لاعلاقتهم بالفساد...يحاولون اغتيال هذا القسم: "أقسم بالله العظيم أن أقوم بأعمالي بأمانة وشرف وأن أحافظ على سر المهنة وأن أحترم مبادئ المحاماة وقيمها"... هذا هو قسم المحامي...الذي يحاولون اغتياله... حصل ذلك في مجلس نواب الشعب ...يوم 9 ديسمبر 2018...وهو سيبقى نقطة سوداء في جبين من اقترفته...كلهم…
هل تعلمون أن بن علي حاول قبل 15 سنة بالضبط...وفي نفس اليوم...في 9 ديسمبر 2003...الإعتداء على السر المهني للمحامين بمناسبة جرائم خطيرة... ولكنه فشل؟
لقد صوت المجلس في ذلك اليوم على قانون دعم المجهود الدولي لمكافحة الإرهاب...وورد بفصله 22 ان على المحامي نكث قسمه...والتبليغ عن الجرائم الإرهابية التي تبلغ إليه بمناسبة عمله...ومرر القانون... ولكن المهنة بمساندة الحركة الحقوقية تصدت لهذا الفصل وشهرت به في تونس والخارج...وحدثت ضجة كبيرة...دفاعا عن مبدأ السر المهني...حتى ان زملاء محامين متمرنين تحمسو للموضوع...وخصصو محاضرات ختم التمرين له…
والنتيجة ان بن علي لم يتجرأ أبدا على إحالة محام على أساسه...رغم تتبع الآلاف من المتهمين على مقتضى القانون المذكور...تولى الدفاع عنهم فيها الكثير من المحامين... حتى تاريخ هروبه…
وبعد الثورة عوض القانون بقانون جديد حذف منه هذا الإعتداء السافر على السر المهني... وذلك أنه ليس على المحامي الكشف عن الجرائم والتبليغ عن مقترفيها...وإنما هناك أجهزة في دولة يمولها المواطن بالضرائب...عليها هي القيام بذلك (حتى هؤلاء يحللو الفلوس الي يقبضوها)....وأن دور المحامي هو ان يؤمن الدفاع عن المتهم...وهو ليس طرفا في التتبع...حتى تكون هناك محاكمة عادلة...من واجب أية دولة ديمقراطية او تدعيها...أن تؤمنها للمواطنين في قوانينها…
ولعلمكم... فإن أغلب النواب بالمجلس الذين صوتو على اغتيال السر المهني...وعلى اختلاف انتماءاتهم...لا يجهلون كل هذا...وبعضهم كان طرفا في المواجهة زمن بن علي دفاعا عنه....سبحانه مغير الأحوال…
فإن كنا دافعنا على السر المهني...بمناسبة جرائم خطيرة مثل الإرهاب...وفوق ذلك تحت استبداد بن علي...فكيف يتجرأ هؤلاء اليوم على التفريط فيه بتعلة وجود تتبع في جرائم محتملة...ليس من دور المحامى تحت أية ذريعة الكشف عنها...وخطورتها تافهة مقارنة بالإرهاب؟...وكل ذلك بعد ثورة حرية وكرامة....ودستور ديمقراطي؟
وفوق هذا كله...كيف يتجراون على محاولة مغالطة الرأي العام والاعتداء على ذكاءنا في الإعلام ...وكأن المواطنين أغبياء...وأنهم هم الأذكياء الذين يجب أن يسبح بحمدهم...متعللين صلفا بمحاربة الفساد؟
والحال أنه أصبح في تقدير الرأي العام في مجمله ان شبهات فساد كثيرة ومثيرة تحوم حول أعضاء في هذا المجلس المتحصنون بحصانتهم...ويرفض زملائهم التحقيق فيها...او مساعدة القضاء على ذلك برفع الحصانة عن المشتبه فيه منهم…
يحصل هذا علاوة على القرارت الأخرى التي اتخذوها بالمناسبة في نفس الميزانية... والتي يتهمون بعضهم البعض داخل المجلس...وهي أصبحت مفضوحة في الإعلام....بأنها كانت بمقابل...طبعا مقابل غير ورقي كما فرضوه على غيرهم من المواطنين....
ما هذا المستنقع يا هذا؟
لقد صدقو من قالو ان الفساد استشرى في مفاصل الدولة ومؤسساتها بعد الثورة....وأنه لا يمكن للضالعين فيه محاربته...حتى لو تظاهرو بذلك.... ولن ينفعهم وضع سحب من الدخان على قراراتهم ...لذر الرماد على العيون... ولمحاولة كسب معركة الرأي العام المحدد في الانتخابات المقبلة.. للديمومة في السلطة... لمواصلة الاستفادة بمغانمها على حساب حقوق المواطنين…