ليس من حق أحد الاعتداء على اللغة، ولا يحسبن أحد بأن الاعتداء على اللغة هو ارتكاب الخطأ النحوي أو الصرفي أو الأسلوبي، فهذا يرتدّ إلى الجهل وليس إلى الاعتداء، ولا ينطوي على نية الاعتداء، والنية الحسنة لا تبرر الجهل ولا شك.
الاعتداء على اللغة لا يكون إلّا عند أولئك الذين يزيفون الواقع وهم قاصدون إلى ذلك، مع معرفتهم بحقيقة الأمور والأشياء والوقائع، وذلك عبر خطاب يقلب الأمور رأسا على عقب.
وقلب الأمور رأسا على عقب نوع من الكذب الصراح لدى من يتبرج بالشعارات التي لا حضور لها في وجدانه.
فمنذ انطلاقة شرارات الثورات العربية وحتى الآن تشهد الساحة الكلامية المكتوبة والشفهية خطابات مناهضة أو معادية لهذه الثورات أو ملفقة للمواقف الغامضة التي تخفي العداء لهـا وذلك انطلاقا من الشعارات الأليفة، الممانعة والقومية العربية، والكفاح ضد الإمبريالية، والتآمر على مصير العرب، إلخ. كما تضاف إليها خطابات تعادي حركة التحرر الثورية باسم الوقوف ضد الأصولية الجهادية وبخاصة داعش.
وقد برزت هذه الخطابات أكثر ما برزت في الموقف من ثورة السوريين الأباة وذلك من قبل بعض اليساريين والعلمانيين والقوميين العرب الذين لم يردعهم الضمير الأخلاقي عن النيل من عذابات البشر الثائرين وتأييد الطاغية باسم تلك الشعارات التي لا وجود لها أصلا في ضميرهم ولا في ضمير من يساندوه.
فإذا الدفاع عن الطاغية لديهم دفاع عن الانتماء القومي، وهنا بالذات تصبح اللغة مقطوعة الجذور ومنبتة، لأنها تحولت إلى مطية، ومضمونها لا يتطابق مع واقع الحال، وكل لغة تزيّف الواقع المرفوض واللاعقلاني دفاعا عنه على أنه أفضل العوالم الممكنة هي لغة منبتة.
فمعيار الإيمان بالفكرة وحضورها بالوجدان هو ممارستها من قبل المؤمن بها في الواقع، فاللغة التي تقدّم خطابا عن تطابق الفكرة مع ممارسة نقيضة هي لغة منبتة، ففكرة التحرير، وهي فكرة أثيرة لدى الناس والتي يتحجج بها مؤيّدو الدكتاتور لتبرير مواقفهم ليست حاضرة في ممارسة الدكتاتور ولم تكن أصلا حاضرة، ولم تنتج أيّ نوع من المقاومة ضد المحتل، وهكذا تكون اللغة التي تتحدث عن فكرة التحرير لدى نظام لا يهجس بالوطن ولا بالأرض المحتلة هي لغة منبتة جدا. وهكذا لغة الممانعة بلا ممانعة، ولغة العروبة بلا إيمان بالمصير المشترك للعرب.
وتزداد غربة اللغة واغترابها كلما خلت من المعنى وصارت مجرد أقوال خاوية، إذ يحاول جمهور من الكتاب الهروب من المشكلات الحقيقية المرتبطة بالمصير والحريّة والكرامة الإنسانية في شروط الانفجار الكبير الذي نعيشه، إلى المشكلات الزائفة والخطاب الأخلاقي الذي لا يغضب أحدا رغبة في إخفاء الموقف. فنحصل على لغة تدين الجميع، تدين القاتل والقتيل، تدين تخلف الجميع، وتزرع اليأس في النفوس بنوع من التشاؤم المصطنع، وتلقي باللائمة على التاريخ والثقافة، وعبر هذه اللغة المنبتة يعطون صك براءة للذين دمروا الحياة وسرقوا زمن الناس إخافة وإبادة للحياة.
إن الهروب من الموقف عبر هذه اللغة المنبتة ليس تعبيرا عن هوية متحررة، بل على الضدّ من ذلك إنه يعكس هوية ضيقة متيقظة تحاول أن تستتر بهذا النوع من اللغة.
ولكن من حسن حظ الوعي أن لغة كهذه محدودة التأثير والسلطة، لأنها ليست معرفة أصلا، وإنما لغة أيديولوجية زائفة تعلن انحيازها للموت ضدّ الحياة.