لماذا يتجنب الجميع الخوض في التداعيات المنطقية للوضع السياسي الحالي.. تداعيات متوقع أن تحدث في أي لحظة؟ كل الخوف أن نطمئن جميعا إلى الضحك والسخرية والتندّر من وضع يتجاوز في سخريته وعبثيته خيال عشرين كافكا. المشهد مزرٍ.. وغير قابل للاستمرار طويلا.. ولا عذر لنا أن نغفل عن الانتباه إلى مآلاته الحتمية الوشيكة.
ما العمل حتى لا ننتهي إلى حالة استسلام مريح لمتابعة بلهاء لمسرحية تافهة تسخر من عقولنا.. وتسرق حياتنا؟ سأطرح أسئلة أراها ملحة وعاجلة.. حتى لا يقال يوما أننا كنا منخرطين بلاوعي في ماكينة تدمير لا الديمقراطية القليلة المتحققة بعد 14 جانفي فقط، بل كل مقومات الدولة والاجتماع التونسيين :
1_ كم بقي من يوم ليخطو قيس سعيد خطوته الحاسمة في برنامج إسقاط المنظومة الدستورية والسياسية الحالية؟
المراهنة الساذجة على أنه سيتعقّل وسينتهي إلى الخضوع لمقتضيات الدستور الحالي مجرد وهم. كل سلوك سعيّد منذ يومه الأول في القصر ينتظمه خيط واحد يشير إلى وجهة واحدة: وضع حد للنظام السياسي والقانوني الحالي. وإن اضطر إلى تمويه خفيف وظرفي بإعلانه احترام الدستور، فهو لم يتوقف عن إرسال إشارات "اقتراب ساعة الفعل".. من حديث المؤامرات المتكرر.. إلى تمسكه بتعيين رئيس حكومة ووزراء يعملون عنده موظفين في مشروع البناء الجديد.. إلى زياراته الاستعراضية الليلية للجيش والداخلية.. والالتحام الدوري بجمهوره. ... من كل هذا نفهم أن سعيد بصدد تحضير فعل ما وشيك...!؟
2_ هل سعيّد يعمل وحده... ولحسابه الخاصّ؟
بمنطق السياسة مستحيل. لا نحتاج عقلا مخابراتيا ومؤامراتيا لنقول هذا. رئاسة دولة تابعة مستعمرة اقتصادية كتونس ليست ولن تكون أبدا شأنا فرديا. طبعا لا دليل على أن سعيد يمثل أجندة أجنبية معلومة (وكل ما قيل في هذا الشأن لا دليل عليه).. ولكنه لم يجد القصر خاليا من السياسة ليفعل فيه ما يشاء.
هل معنى ذلك أن أجندته العجيبة تشترك فيها معه أطراف دولية؟ لا أظن. ولكن لا شيء يمنع هذه الجهات من "توظيف" حماس سعيد لمشروعه لمنع تحقق الاستقرار السياسي الضروري لتحقيق إنجاز اقتصادي أدنى يصنع أنصارا حقيقيين للديمقراطية. وفي هذا السياق يأتي دور ديوانه الغامض. محيط سعيد غرفة مظلمة، ويبدو أنه يحرص على هذه الظلمة لتغذية فانتازمات تخصه وتخص مقربيه الأشباح.
إلى أي مدى قد يصل هذا التوظيف؟ لا أرى ما يمنع من مد الحبل لفوضى تونسية محسوبة ومراقبة.. في حدود ما تسمح به مستجدات الإقليم المتحرك جدا في ليبيا والجزائر.
3_ هل وحده سعيّد يريد إسقاط النظام؟
الأكيد أن إسقاط النظام السياسي الحالي ليس مطلب سعيّد وحده. هذه حقيقة معلنة. يعلنها اليسار الذي يئس من الانتخابات. وتعلنها عبير أيضا.. ولكنها، بعد أن راهنت في بداية الدورة البرلمانية على المضي الفعلي في التعطيل الكلي للبرلمان تمهيدا لمرحلة ثانية ما(!!)، تبدو الآن مطمئنة إلى استطلاعات الرأي الجديدة التي تضعها في مقدمة نوايا التصويت رغم بعد الآجال الانتخابية.. ومستعدة لتخصيص الزمن المتبقي إلى هرسلة خصومها…
الأخطر من سؤال الأطراف التي تريد إسقاط المنظومة الحالية هو :
4_ هل يوجد من سيخرج للدفاع عن الديمقراطية..؟
الديمقراطية الجنينية لم تخلق ازدهارا واسعا يجعل الناس تندفع إلى الشوارع لتدافع عنها. وأسباب فشلها لا تعني العامة التي لا تفكر وليس مطلوبا منها أن تفعل طبعا. في الأقصى سيخرج من بقي من أنصار للنهضة. إلا إن حدثت طفرة وعي/أمل ديمقراطي في أوساط القطاعات النقابية.. باعتبارها طبقة وسطى تميل دائما إلى رفض المجهول.
إضافة إلى أن الواجهة الحزبية الحالية للديمقراطية.. أي النهضة والقلب والكرامة والإصلاح وتحيا.. لا تغري كثيرا بالدفاع عن المنظومة.
5_ ماذا ينتظر سعيد ليبدأ؟
شخصيا صرت متأكدا أن سعيد قرر المرور إلى تنفيذ مشروعه. ولن يكون ذلك بالوسائل الدستورية كالاستفتاء.. فما بالك بالمراهنة عل أغلبية برلمانية ما.. سواء في البرلمان الحالي أو في انتخابات مبكرة يتم تهيئة شروطها وتشارك فيها تنسيقياته.
6_ ماذا بقي لسعيّد من خيارات إذن؟
صرت متأكدا الآن أن إقالة وزيره من الداخلية أربكت كثيرا برنامجه. حجم حركة الإقالات والنقل والتعيينات التي برمجها وزير سعيد لا يمكن أن تُفهم إلا في سياق عملية أكبر كانت توفيرا لشروط تغطية أمنية لعمل يهدف إلى تغيير قواعد العملية السياسية ومفاتيحها الحالية أي البرلمان والحكومة.
الكفة تميل لصالح المشيشي الممسك حتى الآن بأجهزة التنفيذ.. (ما حصل مؤخرا من طرف النقابات الأمنية الموجهة يفهم ضمن هذا السياق).. ولكن صنع الفوضى، في صورة وجود ضوء أخضر دولي، لا يحتاج أدوات معقدة.. ويبدو أن الرأي العام السياسي صار أميل إلى الحلول الشعبوية في غياب أي تقدير عقلاني لأثمان الفوضى.