لنجيب.. ليس علينا أن نبحث طويلا في التاريخ والفكر السياسيين. صحيح أن للمشهد خلفيات نجدها في استراتيجيات فاعلين محليين ودوليين.. ولكن ذلك لا يمنع من بعض الاختزال.. لنقول أن هذه الأزمة من صنع أفراد.. وهم سعيّد والغنوشي والمشيشي والقروي.
من أين جاء هؤلاء إلى مواقعهم الحالية؟
1_ سعيد جاء من العدم السياسي والفكري. صفر سياسة وأصفار فكر زمن السبعينات الثمانينات والتسعينات.. أي زمن غليان العالم بأفكار التغيير السياسي، وزمن انقسام بلادنا العربية إلى معسكرين كبيرين واضحين نقيضين : مناضلي الديمقراطية (بكل أخطاء البدايات) ومفكريها، والمتمعشين من طفيليّي الاستبداد الجاهل. سنوات طويلة قاومت فيها كل فئات المجتمع حكم الحزب الواحد والفرد الواحد والعائلة الفاسدة..
كلّ فئة قاومت بأسلوبه ودفعت أثمانا باهضة : الشباب بتنظيماته الطلابية الجذرية.. المثقفون الديمقراطيون بالعمل الحقوقي (وما يراد اليوم تعميمه بحمق ونذالة من أن كل الحقوقيين عملاء للغرب ومرتزقة غير صحيح.. يكفي ذكر ما فعله بن علي بالرابطة زمن المرزوقي).. والتنظيمات السياسية المراوحة بين السرية والعلنية.. والشعب المغلوب على أمره بسخريته البذيئة من الرئيس وعائلته.. في تلك الأثناء كان سعيد "عيّاشا" بلا موقف. جامعي بلا موقف في ذلك الزمن يستوي عندي بأمّي التي لم تدخل المدرسة ولا تعرف رئيس تونس.
بعد أجيال من المشتغلين بالسياسة كالتزام أخلاقي مكلّف، جاء سعيد بفراغه ليهين السياسة. وما يلغو به من حديث عن مشروع بناء جديد لا يعدو أن يكون إلا بذاءة لا علاقة لها بالسياسة.
نظيف وخلوق وطاهر وملاك؟؟ نعم.. وربما لا.. وفي الحالتين "أمورو".. أموره التي لا تصنع سياسيا مناسبا لمنعرج في تاريخنا يحتاج تكوينا سياسيا مكثّفا لا يملك منه شيئا.
2_ الغنوشي.. قدم إلى أعلى منصب في الديمقراطية، بإعاقتين جذريتين كبريين تمنعانه من أن يكون هناك : هو خلاصة تجربة حركية أمضت جزءا طويلا من تاريخها وهي تحاول إيجاد فتوى فقهية تبيح الديمقراطية وتؤصلها في منظومة تفكير تؤمن بالأمير الواجب طاعته والمطالب في أحسن الحالات بشورى غير ملزمة. اكتسب الغنوشي بعض الكاريزما في تنظيمه بفضل محاولاته "تأصيل الديمقراطية" في التفكير الفقهي (طبعا إلى جانب السرية التي تضفي هالة غموض حول القيادة الملاحقة دائما).. وحين كتب عن الحريات السياسية، ظل يفكر ضمن دائرة "الفقه السياسي" الباحث عن تخفيف التناقض بين الموروث السلطاني والجديد الديمقراطي الذي هو منتج عقلاني محض. ( من سيتحجج بنجاح مورو في إدارة البرلمان نذكره أنه كان نائب رئيس بدور تقني لا أكثر).
الإعاقة الثانية والأخطر هي أنه قرر الترشح في قائمات حزبه بقرار فردي خالص اتخذه في تناقض جذري مع خطة الحزب السياسية القاضية بعدم تصدّر واجهة انتقال ديمقراطي هش يقاوم ليعبر موجة عنيفة من الاستهداف العربي والدولي للثورة. بينت الأحداث بعد ذلك أن الغنوشي يحركه طموح جارف ومرضي للسلطة. ومن أجل هذا الطموح أقدم على إفراغ حركته من الكفاءات مضحيا بكل رصيد الأخلاق فيها. وبسببه تجد النهضة نفسها أمام خطر الانقسام والاندثار.
كل ما يفعله الآن له خلفية وحيدة : البقاء في منصب رئاسة البرلمان.. تمهيدا لترشحه إلى رئاسة الدولة في2024. والتحالف مع قلب تونس، الذي بالغ في ترذيله خلال الحملة الانتخابية، هو ليس أكثر من صفقة انتهازية خالية من السياسة والأخلاق ليستمر بمقتضاها هو والقروي إلى الموعد الانتخابي القادم.
الغنوشي ورّط حزبه وكل الديمقراطية التونسية الهشة بخطوة متهورة.. التراجع عنها سيكون مكلفا. وهو الآن يدير توازنا دقيقا ومؤقتا مع القروي والمشيشي ضد سعيد الطامح بدوره إلى رئاسة قادمة.. يريدها دائمة لينفذ مشروعه. وضد القروي والمشيشي المنافسين المحتملين لاحقا.
3_ القروي.. بقليل من السياسة اكتسبه خلال مروره بدرس تأسيس نداء الباجي.. وبشراكة فجة ومفسدة للسياسة بين الإعلام والمال، نجح في الحصول على الموقع الثاني في البرلمان. موقع يجعله الآن، من داخل سجنه، حكما بين الغنوشي وسعيد.. ومقررا لمصير الحرب المعلنة بينهما.. ومصير هذا المنعرج من الانتقال.
الغريب فيما يخص القروي أنه نجح إلى حد الآن في المحافظة على تماسك حزبه بعد انشقاق أول.. وأخير.. رغم أن حزبه /شركته كان مجرد "لقاء انتهازي معلن".
القروي يوفر لسعيد وأنصاره عنوانا سهلا للحرب على الغنوشي والمشيشي باسم الحرب على الفساد.. رغم أن لوبيات الفساد لا يمثل فيها القروي حلقة مركزية أبدا، فالفساد هيكلي في تونس ويمسّ كل أجهزة الدولة.. ولكن هذا لا يمنع من القول ببساطة أن القروي دخل السياسة كباحث عن الثراء بأدوات الحكم.
4_ المشيشي.. جاء به سعيد.. أو جيئ به إليه من العدم السياسي هو أيضا. وجد نفسه على رأس أهم سلطة تنفيذية في البلاد.. وفي ظل صراع معلن بين سعيد والغنوشي.. اختار الانتصار لنفسه. ولا معنى للومه على الانتصار إلى خيار حاجة الدولة إلى حكومة تضمن تواصل المرفق العمومي.
ولو شئنا المفاضلة بين هؤلاء الأربعة لفضّلنا المشيشي. صحيح أنه استفاد من سذاجة من جاء به (تحطّبلو الأرياح) ، ولكنه لا يلام على حماقات غيره.. ولو أنه ينجح في الصمود وتحقيق إنجازات فعلية، لربما صار مرشحا حقيقيا لدور سياسي مهم. طبعا نقطة ضعفه الأخلاقية هي أنه مدين ببقائه إلى استمرار صفقة الغنوشي القروي.. ولكن انسحابه لا يضمن مطلقا قيام تحالف "أنظف". ألم يقل عبو النظيف يوم كان في التيار أن لا مشكلة له مع القروي!؟...
انسداد صنعته أسماء بعينها نعم. صحيح أن ذهابهم لا يعني آليا الخروج من الأزمة.. أو أن الذين يتأهبون حاليا لتعويضهم أفضل منهم.. ولكنها خطوة لازمة.. وإن تدريجيا.