بصراحة أصبحت أشك في ذلك. إذ يصعب أن يكون نزيها وصادقا من يعتبر أن المشاورات النيابية اللازمة دستوريا لتكليف الشخصية الأقدر على نيل ثقة البرلمان هي مجرد إجراء شكلي يمكن أن يلقى في سلة المهملات أو ربما آلة قص الأوراق ليأتى بالمختار السعيد "الغدّار" من خارج أهم المقترحات المطلوبة كتابيا (عبر البريد إياه) دون أي تشاور حقيقي رغم قيمة "الشورى" حتى في التراث الديني المولع به في الظاهر كأحد الخلفاء الراشدين (لديّ صديق عجيب الأطوار يتفنن هذه الأيام في الإشادة بباطن السيد وأسراره...ههه)، ثم يتشدد ويتصلّب و"يستلبس" في اعتبار أن أداء اليمين إجراء جوهري دستوريا لا يقدم عليه إلا ملاك طاهر في حضرة الإمام الأطهر.
في حين أنه يعلم أن الدساتير الديمقراطية الأرضية الحديثة التي تفصل بين السلطات ولا علاقة لها بالسماء والحكم المطلق، قد صيغت، كما يقول بعض أساطينها وكبار المشرّعين في معاقل العقلانية السياسية، من أجل تقييد شياطين الإنس حتى لا يحتكروا السلطة المغرية بطبيعتها وينفردوا بها مع افتراض مسبق أن جميع الفاعلين السياسيين أشرار و"كل واحد شيطانه في مكتوبه".
والأكيد أن ما ارتكبه "صاحب الأمر والنهي" عندنا مرتين على الأقل ليس مجرد تعسف متسرع في التأويل وخطأ عن جهل أو حسن نية، أو كما يقال الطريق إلى جهنم مفروشة بالنوايا الحسنة، وإنما هو بالتأكيد خرق جسيم متعمد للدستور مع كامل الوعي وسبق الإصرار والترصد من أستاذ قانون دستوري يعرف جيدا، حتى من خلال الدساتير المقارنة، أن جوهر نظامنا السياسي يبرز واضحا جليا في أقصر فصول الدستور التونسي وأغناها عن التأويل، وهو الفصل 95 الذي نذكّر للمرة الألف بما ينصّ عليه حرفيا من دون زيادة أو نقصان وبكل ما يعنيه ويترتب عنه: "الحكومة مسؤولة أمام مجلس نواب الشعب." (وليس أمام رئيس الجمهورية).
وتتفاقم المأساة الملهاة حين تتضافر مع ذلك العزف المنفرد وتدعمه بكل صفاقة جوقة جماعية تردد بأن "المسألة سياسية وليست دستورية وقانونية" بدعوى غياب المحكمة الدستورية وكأن الدستور والقانون الانتخابي القائم على النسبية لا يحكمان عموم الحياة السياسية والتداول على السلطة في تونس والتحالفات البرلمانية الهشة منذ 2014 كأقرب ما يكون إلى الطريقة الإيطالية التي تتساقط فيها الحكومات سريعا منذ 1945 ( عقب النظام الفاشي الذي انتهى معلّقا من قدميه)، تماما مثلما يحدث عندنا وكأنها الأنسب لنا مع الأسف باعتبار انتشار الفساد بعصاباته المافيوزية العديدة القديمة والجديدة والتعصب الجهوي وكثرة الأحزاب هنا وهناك...حتى وإن اختلفنا عن الإيطاليين بانتخاب الرئيس انتخابا مباشرا تسبّب في تقسيم السلطة التنفيذية إلى رأسين وزاد من همومها و همومنا وأفقدها تجانسها وقلّل من تحمّل الحكومة كامل مسؤوليتها مع مجلس النواب الذي تستند إليه.
أما اللقطات التي ما زال يأتيها صاحبنا من صنف المسرح التراجيدي/ الكوميدي التاريخي فلا تؤشر في نظري لأي رفعة أخلاقية أو لشعور متسام بالمسؤولية في علاقة بالتواصل مع الآخر والمختلف، وربما تكشف تشنجا عدوانيا كامنا و وسواسا قهريا لم يظهر كافة جوانبه العنيفة بعد، وقد يذهب تخمين البعض إلى أنها حركات اتصالية محسوبة من النوع الشعبوي للإلهاء وصرف الأنظار عن لبّ المسألة وجذبها نحو الشخص الأوحد والبطل المنقذ محور العملية السياسية وماسك مقودها...كما يطمح ويسعى هو ومن من يقف وراء شطحاته وتهويماته ولطخاته المتتالية المطلوبة إلى حين "اللطخة الكبرى" المنتظرة والمأمولة من بعض الفاعلين خلف الستار القرطاجني بالتزامن مع تعفين الأوضاع وتسميم الأجواء المتأزمة أصلا .
وأعتقد أن الشخص في ذاته فرديا ليس لبّ الإشكال، وإنما يبقى الأخطر وطنيا استغلاله وتوظيفه لموقعه الرئيسي، دون سلطة مضادة وبحصانة مطلقة، في احتقار الدستور والانقلاب عليه كمؤشر تخلف جماعي يشترك فيه مع عدة قوى اجتماعية وسياسية وثقافية ببلادنا، وللمفارقة من أطياف مختلفة يزعم بعضها أنه ديمقراطي وتقدمي وحداثي وحقوقي ويساري، ولا شيء في أفق أغلبهم إلا العودة إلى الحكم الفردي (تحت غطاء النجاعة المزعومة للنظام الرئاسوي وكأننا لم نجربه ستين عاما ولم نتسول في عهديه مرارا وتكرارا عند أعتاب صندوق النقد الدولي وغيره) ، وذلك بتحريض خاص ومميز ولصيق حزبيا ممن لا يزالون يحلمون، نفسيا وايديولوجيا مع الأسف رغم النكسات والانكسارات، بالانقلابات التي أقامت "الجمهوريات" العسكرية/ العائلية العربية لتسحق مجتمعاتها بعد أن كذبت جميع "بياناتها الأولى" وفشلت فشلا ذريعا في تحقيق وعودها الزائفة وشعاراتها الخادعة بالقضاء على الفساد والتبعية اللذين استفحلا في ظل تكميم الأفواه وخنق كل صوت معارض وهيمنة "مجموعة فاسدة واحدة" فعلا لعقود طويلة.
ولعلّ "فساد معرّي" قابل للفضح والكشف والمحاسبة بفضل حرية الإعلام والمجتمع المدني والنضال النقابي والقضاء المستقل نسبيا والتعددية الحزبية والبرلمانية، مثلما نعايشه في السنوات الأخيرة الانتقالية الصعبة والمتعثرة فعلا وفاعلا ومفعولا، أهون من "فساد مغطي" أصمّ بالحديد والنار وكتم الأصوات وتطويع العدالة وتدجين النخب كما عرفناها في العقود السابقة…
وهو منها ومحسوب عليها، و قد خيّب أملي وأمل الكثير من ناخبيه باعتباره تجسيما حيا لأسطورة "الصدق في القول والإخلاص في العمل"… وفي هذا السياق تذكرت قوله التحريضي البليغ في السنة الفارطة، والذي كان موجها فقط ضد نواب البرلمان نازعا عنهم الشرعية متناسيا نفسه كمنتخب بدوره، ولكل شرعيته في حدود دوره الدستوري:
" الشعب قادر على سحب الوكالة ممن خان الأمانة والوكالة" ولا أمانة أكبر من احترام الدستور. ولا خيانة أخطر من الإمعان في خرقه ثم ادعاء عكس ذلك باسم الدفاع عن الأخلاق والمبادئ.