أفردنا للأنا قولاً خاصاً، لكن الأنا وجودٌ في العالم، في عالمٍ اجتماعي
أخلاقي سياسي معرفي .
الأنا في العالم أسير هذا العالم، و لا ينشأ وعيه بالحرية إلا بوصفه وعياً بالأسر. الأنا أسيرٌ في هذا العالم أسير البنية، أسر الكهف، أسير المقابر، أسير الأصنام، إذاً هو أسير كل ما خارج أناه. سنطلق على ما هو خارج ((الأنا)) و عدم وعي التناقض بن الأنا و اللاأنا لا يعني سوى أن الأنا أدمن الأسر و ما عاد بمقدروه أن يميز نفسه عن غيره .
وحين واجه الإنسان الطبيعة الصامتة، واجه عالماً مسالماً، لا يقصد إطلاقاً إي شيء، فانتصر عليها بذكائه، ومع أن الطبيعة ليست خصماً، لكنه خلق طبيعة أخرى انسانية، أقصد عالماً صار موضوعياً بالعلاقة به، الجبال و الأشجار و الأنهر و البحار و الزلازل كان من السهل أنسنة هذا العالم ، فيما البينة و الكهف و المقابر و الأصنامعالم عدائية هيهات للأنا أن يقدر على أنسنتها فالبنية نظام يتميز بالثبات النسبي، اتحدث عن بنية اجتماعية لا عن بنية فيزيائية.
الأنا وجد نفسه ملقى داخل البنية ، و صار تعبيرا عنها، إنه اختصار البنية التي نشأ و ترعرع بها، و البنية يحطمها التاريخ و بشكل عفوي ، و لكن لقاء بنية جديدة.
فالبنية الفلاحية، ليست مجرد علاقة بين الإنسان و الأرض، بل بين الفلاح و الملكية، كل قيم المجتمع الفلاحي قائمة على هذه العلاقة المالك، الزعيم الفلاحي، الإقطاعي، الثأر، تحريم الحب، المهر، اللغة، البيت، القرابة، الوعي الأسطوري، الدهاء، الشك بالآخر، الجسد، عالم اللغو، البخل، الكرم، العصبية العشائرية.. إلخ .. إلخ
و قائل يتحفظ: إنك تحدثت سابق عن النظام المتعالي و النظام السياسي أليست البنية هي هذا النظام المتعالي لا شك أن النظام المتعالي بنية و لكني هنا، أنتقل من نظام أخلاقي – قيمي يفرض سلوكاً مطابقاً إلى بنية تنتج الإنسان الفرد، دون أن يكون له دخل في هذا كله إنه – أي الإنسان – الذي نشأ و ترعرع في بنية اقتصادية اجتماعية كلية.
لهذا قلنا بنية فلاحية و بنية مدنية و بنية حرفية .و كل بنية من هذه البنى ذات عناصر متعددة ووظائف مختلفة، تفعل فعلها بشكل عفوي. إن النظام المتعالي هو جزء لا يتجزأ من البنية الاجتماعية، و النظام السياسي هو في الغالب ثمرة لهذه البنية. فالمجتمع هو البنية الأوسع و الكلية، و متكون من بنى جزئية لا تفهم إلا بالقياس إلى البينة الكلية.
فمن المعروف مثلاً أن الانتماء السياسي -نظرياً- هو خيار أيديولوجي قد يتجاوز البنى التقليدية، لأنه بنية حديثة، و لكن الحاصل أن البنى العشائرية مثلا، هي التي تحكمت بالانتماء السياسي – بالحزب- و ليس العكس في المجتمع الفلاحي الآسيوي و الإفريقي.
و كان يكفي لزعيم محلي أن يختار انتماءً سياسيا ما، لكي تكون العشيرة، أو المنتطقة كلها ذات انتماء سياسي متطابق مع انتماء الزعيم ،والزعيم بدوره حصل على مكانته بسبب عصبية قبلية ،أو طائفيةو ليس عصبية سياسية .
إن الأنا لا يستطيع التحرر من أسر البنية إلا إذا تحطمت هذه البنية.
فالمدينة، عالم التجارة و المال و الحرفة و العمل بنية مختلفة عن بنية القرية، و بالتالي تختلف قيم المدينة عن قيم القرية. و ليس الحديث عن عالم ما قبل الحداثة أو عالم الحداثة إلا حديث عن حالة البنى التي تصنع الأنا،و كنا قد تحدثنا عن انشطارات الأنا بوصفها انشطارات ناتجة عن عدم انتصار بنية ما انتصاراً حاسماً.
فالأنا الذي صنعته بنية ما، من الصعب عليه الانتصار على هذه البنية بفعل إرادي صرف بل الأمر متعلق بالسيرورة التاريخية نفسها كحركة موضوعية شبه عفوية.
إن قولي، إن الأنا الذي صنعته بنية ما، يصعب عليه الانتصار على هذه البنية لا يتضمن أن يستسلم الأنا للبنية، بل على العكس يشي القول بضرورة -إن رأى الأنا ذلك- أن يتمرد الأنا على هذه البنية دون انتظار نتائج مباشرة لتمرده ،إذ لا أريد للبنية أن تعلن موت الأنا، بل على العكس أريد أن يعرف الأنا أنه يواجه، أو يقتحم قلعة، أو رغم أن البنية قلعة عليه أو يقتحمها، أن يقتلع إن أمكنه ذلك حجرا أساسا من أحجارها.
إن البنية أشبه ببناء عقد، لا ينفع معه الضرب من الخارج، بل لابد من تحطيم العقد بحركة من الداخل من الأدنى إلى الأعلى. و رب اقتلاع حجر واحد من العقد يؤدي إلى انفراط العقد كله .إن دور الأنا هنا كبيرٌ جداً. فالعقد يستمر لزمن طويل إذا بقينا فوقه نصرخ ..
إننا بهذا الفهم لعلاقة الأنا بالبنية نسعى لتحديد أدق لعلاقة الإرادة بالتاريخ، و لا يواجه الأنا البنية فحسب، بل إن أخطر عدو للإنسان هي الأصنام التي صنعها بنفسه وراحت تعبث به وتتسيد عليه.
هل نقول إن تاريخ الإنسان، في أحد أوجهه هو تاريخ علاقته بالأصنام ؟ نعم.