نتخاصم حول كل شيء: حول الأحياء والأموات، حول التسريبات، وحول القمر الصناعي أيضا. الموت صار في قلب الصراع الإيديولوجي، وباسم الإيديولوجيا يتمّ تدنيس البعض وإدخالهم الجحيم بعد موتهم، أو تحويلهم إلى قديسين، وباسم الإيديولوجيا أيضا، يتمّ تتفيه حدث إطلاق القمر الصناعي وتقزيمه أو تضخيمه وتحويله لانتصار لطرف سياسي. هكذا نحن دوما. داخل دوّامة تدور بنا حتّى الدُّوار.
غافلون عن أنّ الإنسان قيمة في حدّ ذاته وأنّ إنسانيّتنا المخدّرة بالطَّرْق الإيديولوجي والسياسي حوّلتنا إلى وحوش تتناهش، وأنّ موت امرأة كاتبة مثل نوال السّعداوي قد يكون فرصة لقراءة تجربتها من جديد في ضوء الحاضر المتغيّر لا فرصة للجلد أو صناعة الصّنم في عُصابية عجيبة. فتجربة نوال السعداوي تجربة مريرة ( طفولتها المعنّفة والمشوّهة ) وجريئة في مقاومة ما تراه زيفا، وهي جرأة يفتقدها الكثير ممن تجنّبوا الحفر عميقا في الذات العربية هربا من عنف السلطة الاجتماعية والسياسية والدينية. فكانوا كتّاب سلطة لا غير.
لقد كانت كاتبة مقاومة لألم عميق تاريخيّ كامن في ترسّبات ذاتها وذات جزء هام من المرأة العربية التي تعرّضت للعنف القاهر لأنوثتها داخل مجتمع ذكوري. ودفعت نوال السعداوي ثمن مواقفها ومن يقرأ مذكّراتها في سجن النساء التي كتبتها بعد اعتقالها لبضعة أشهر من قبل نظام أنور السادات بسبب نقدها لسياسته وعلاقته بإسرائيل يندهش لوحشية الأنظمة العربية الشمولية في تعاملها مع المعارضين لها، نساء ورجالا.
نوال السعداوي يمكن أن تختلف معها وتجادلها في أفكار كثيرة، ولكنّها تظلّ، في رمزيّتها، تلك الجرأة الشجاعة التي يجتاجها الفكر ليخترق حدود الجاهز والمعلّب والمقولب، وتلك الذات الحرّة التي تأبى كلّ أنواع السجن. بعد خروجها من السجن كتبت:
"هل أنا اليوم خارج السجن؟ لماذا إذن هذا الشعور بالاختناق والانحباس؟ كانت القضبان من حديد لكنها اليوم من مادة أخرى غير مرئية".
لعلّه السّجن الكبير الذي نعيش فيه جميعا حين نعجز عن الإنصات إلى بعضنا البعض وعن صياغة رؤانا من سديم اختلافاتنا المنصهرة في نار الجدل الفكري الحقيقي. سجن كبير أدركت انحباسي داخله في ما قرأت إثر موت نوال السّعداوي من أدلجة للموت، ومن أدلجة لكلّ شيء، حتّى القمر المنطلق إلى الفضاء الرّحب لم ينج من ضيق الإيديولوجيا. إذ صادفني حديث ل"قيادي" عن أنّه ليس قمرا بل مجرّد cubesat معكّب صغير وأنّ هناك 38 قمر صناعي إلى جانبه ( ما المشكل؟) مع سلسلة من الاتّهامات ل "العصابة" التي تريد أن تشغلنا عن همومنا الحقيقية بمسرحية جديدة.
وكأمّ لمشروع مهندس يهتمّ بهذه المسائل ويشتغل عليها كان شعوري بالإحباط هائلا أمام كمّ التقزيم لجهد مجموعة من المهندسين الشبّان الذين أشرفوا على صياغة العمل. وفكّرت في ردّ فعلهم وهم يقرؤون "قياديا" يكتب بهذه الدرجة من الحقد والاستهجان والتقزيم لجهد أدرك جيّدا معناه.
معاول الهدم هنا كثيرة. والأجدر بها أن تتوجّه لهدم الأصنام والأوهام والوثوقيات التي تسكن مخيّلتها لا لهدم خطوات صغيرة نخطوها للتجذّر في العصر داخل عالم يتطوّر بسرعة الضوء.
الأمر يتعلّق بتغيير البنى الذهنية التي تربّت على الوثوقية المطلقة وعلى "سلفية" فكرية يمينية ويسارية تحكم ردود الفعل وتمنع الخروج من القوقعة التي يختبئ فيها الكلّ ضدّ الكلّ. فأمان القوقعة أفضل من هوج البحار وعتوّ الموج حين يزلزل التفكير أرض القناعات الثابتة والأحكام الجاهزة.
أعتقد حقا أنّنا بحاجة إلى حداثة جديدة نتحرّر فيها من عبء ثقيل، ثقيل جدّا، يخيّم على العقول والأرواح ويمنعها من الانطلاق، كفكر حرّ، وكقمر يرتفع في الفضاء، ويحمل معه أحلامنا الكبرى بأن نعانق يوما المستحيل.