أثارت قرارات الحكومة التونسية، أخيراً، فرض حظر الجَولان (التجول) ابتداء من الساعة السابعة مساء (موعد إفطار رمضان)، وإغلاق المقاهي والمطاعم ليلاً، والأسواق الأسبوعية، ردود أفعال كثيرة، من المنظمات المهنية المدافعة عن منتسبيها، على غرار الاتحاد العام التونسي للشغل، واتحاد الصناعة والتجارة وغيرهما، فضلاً عن احتجاجات في جهات عدة في البلاد، ندّدت بما اعتبرته تضييقاً على الناس، وتجويعاً لهم في غياب أيّ إجراءاتٍ مصاحبة (منح، إعانات مالية...) تخفف عنهم آثار تلك الإجراءات، خصوصاً ارتفاع الأسعار وانتشار البطالة.
حدث هذا في بلدان عدة، بما فيها الأكثر ديمقراطية ورخاء، حيث شهد بعضها احتجاجات لم تخلُ من عنف في مواجهة الإجراءات المتخذة لمجابهة الجائحة، لأسباب عدة، لعلّ أهمها اعتقاد الناس أنّ الحجر الصحي، بقطع النظر عن حجمه وأشكاله، اعتداء على حقوقهم الأساسية، ومصادرة مساحات هامة، منها حق التجول، وحق السفر، وحق التجمع... إلخ. وشعورهم بأنّ الحجر يجعلهم عرضةً لأشكال عدة من العنف الرمزي والمادي الاقتصادي، خصوصاً إذا كانوا من فئات مجتمعية هشّة، على غرار الفقراء والمهاجرين والنساء والأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة.. إلخ. ثمّة شعور متزايد لدى فئات واسعة أنّهم أصبحوا أكثر من غيرهم رهينة في قبضة الوباء، ودكتاتورية الأطباء...
غير أنّ ما دفع المواطنين في تونس إلى رفض تلك الإجراءات، والتهديد بمقاومتها إلى حدّ العصيان المدني، كما جاء على أكثر من لسان، أنّ عدة اختلالات شابتها، فقد جاءت فاقدة الانسجام، فالطبقة السياسية التي أباحت التظاهر والتجمعات، وميّزت في شعائر الدفن بين مواطنيها، وانتهكت البروتوكول الصحي في أكثر من مسألة، وتبجّحت به، هي نفسها التي تفرض عليهم، بشكل أو بآخر، هذه الإجراءات.
كما أنّها كانت غير منصفة وغير عادلة، بل تمييزية أحياناً، تجعل فئات من دون أخرى ضحية لها، وهي التي عانت أكثر من سنة من وطأة الإجراءات المتخذة. ويضيف بعضهم أنّها فاقدة للمرافقة، أي لم تصاحبها إجراءات موازية ومتنوعة، مالية، ورمزية... إلخ، فالدولة مدعوة إلى أن "تشتري" صحة مواطنيها، علماً أنّ الكلفة مهما كان مبلغها ستكون أدنى من كلفة الكارثة الاقتصادية التي ستحلّ بقطاعات وفئات وعائلات، لو رفعت كلّ إجراءات الحجر الصحي.
هل معنى ذلك أنّ على الحكومة إيقاف الإجراءات والذهاب إلى إلغائها؟ هذه إجابة شعبوية سهلة، لكنّ كلفتها الإنسانية ستكون باهظة أيضاً، في ظلّ الوضع الوبائي الخطير، إذ تفيد مراكز دراسات وخبرة عدة أنّ ذلك سيكلف تونس بعد نصف شهر ما بين 100 و150 وفاة بالفيروس يومياً، وهي التي تحتل حالياً مرتبة متقدّمة أفريقياً في عدد الوفيات بسبب الجائحة.
ثمّة أزمة ثقة مستفحلة ستحدّ من نجاعة أيّ مقاربة. مع ذلك، فالحكومة/ الدولة مدعوةٌ إلى أن ترفق تلك القرارات بإجراءاتٍ مصاحبة، حتى تقبلها تلك القطاعات، وتمتثل لها. ولعلّ من شأن القرار الذي أعلنت عنه وزارة الشؤون الاجتماعية لاحقاً، بتسديد منح مالية للفئات الضعيفة، أن يخفّف من وطأة الرفض الذي جوبهت به تلك القرارات.
ولم تخلُ إجراءات الحكومة من استثمار سياسي من رئيس الجمهورية، قيس سعيّد، الذي استغلّ فرصة إحياء عيد الشهداء، ليقرّع رئيس الحكومة، هشام المشيشي، علناً، ويدعوه إلى مراجعة الإجراءات، في إشارة واضحة إلى غياب أيّ انسجام بين الرئاستين/ المؤسستين. وقد ظهر حرج المشيشي من الملاحظات العلنية التي كان ممكناً أن تُقال في اجتماع مغلق بين الرجلين، علماً أنّ القطيعة بدأت تترسّخ أكثر من أيّ وقت، في ظلّ مساعٍ حثيثة، يقوم بها الاتحاد العام التونسي للشغل، لتجاوز الجمود الذي أصاب أجهزة الدولة.
اضطرّت الحكومة، بعد أقل من 24 ساعة، وأخذاً بالاعتبار ملاحظات رئيس الجمهورية، وخشية من أن تكون تصريحاته تلك ذريعة لتأجيج موجة الرفض، إلى تخفيف الإجراءات جزئياً (توقيت الحجر، القطاعات، الفضاءات...)، وإقرار مراقبة مكثفة للتجاوزات، مع التعويل على "هبّة وعي مواطنيّ" تعمّم القبول الطوعي والحرّ بالإجراءات، وتُبدي تضامناً وطنياً مع ضحايا هذه الإجراءات، بحسب رئيس الحكومة، وهي من شأنها أن تجنّب تونس حالة احتقان أخرى، في غنى عنها.
قدّمت تونس في الموجة الأولى من تفشّي الوباء مثالاً ناجحاً في إدارة أزمة كوفيد، غير أنّ ذلك الإنجاز سرعان ما تبدّد لأسباب عدة، لعلّ أهمها التغييرات التي طاولت الحكومة، فبرحيل حكومة إلياس الفخفاخ، التي تحمّلت مسؤولية إدارة الموجة الأولى تقريباً، ومجيء حكومة المشيشي، شهدت وزارة الصحة قدوم أربعة وزراء. كما حدّت الأزمة الاقتصادية من نجاح تلك البداية، إذ لم تستطع الدولة أن "تشتري" صحة مواطنيها، خصوصاً وقد طالت مدة الجائحة. وأخيراً، جعلت أزمة الثقة التي استفحلت بين المواطنين والنخبة الحاكمة الامتثال لإجراءات الحكومة مفقوداً، ما عمّم حالة التسيب واللامبالاة... إنّه إنهاك الجائحة المخيف.