في الليلة الثالثة عشرة لمواجهة مدنيين عزل إلا من الإرادة بدعمٍ وإسناد آخذ بالتوسع فلسطينياً وعربياً في وجه قوات مدججة بالسلاح، سجل الاحتلال تراجعه الرابع على التوالي في ست سنوات، وهذا النصر المقدسي يحمل معانٍ بليغة أهمها:
1- بعد 104 أعوام على سقوط القدس بيد الاستعمار الغربي الذي أسلمها للصهاينة على مرحلتين، وبعد 73 عاماً من قيام الكيان الصهيوني و54 عاماً من الاحتلال المباشر للبلدة القديمة ومقدساتها؛ ما يزال الاحتلال عاجزاً عن إغلاق مدخل البلدة القديمة بالقواطع الحديدية المؤقتة، وليس هذا إلا دلالة بالغة على جدوى الصمود كخيارٍ تاريخي.
2- هذا الانكسار الصهيوني هو الرابع في ست سنوات من بعد هبة القدس في 2015 التي استنجد المحتل بجون كيري بعد انطلاقها بـ21 يوماً فأفشلت محاولة فرض التقسيم الزماني المتكافئ للأوقات والأعياد في الأقصى، وهبة باب الأسباط 2017 التي اضطر المحتل فيها لتفكيك البوابات الإلكترونية والكاميرات على أبواب الأقصى بعد أقل من 14 يوماً على تركيبها، وهبة باب الرحمة 2019 التي أعادت فتح مصلى باب الرحمة جزءاً لا يتجزأ من الأقصى بعد 16 عاماً من محاولات السيطرة التدريجية عليه وعلى محيطه... فضلاً عن تراجعين أصغر: في الخان الأحمر بعد صمود شعبي وتهديد دولي في 2018، وفي مقبرة باب الرحمة في 2018 أيضاً، ما يجعلنا حقيقة أمام 6 تراجعات متتالية في 6 سنوات.
3- خلال هذه التراجعات، وتحديداً الهبات الثلاثة الأخيرة، لم تجرؤ شرطة الاحتلال على إطلاق الرصاص الحي أو استخدام نيرانها بقصد القتل في مواجهة الحشود، لخشيتها من بدء دوامة دمٍ وثأر تفتح باب إعادتها إلى أسوأ كوابيسها إبان انتفاضة الأقصى عام 2000، وهذه مراكمة مهمة على كيٍّ عميق حصل في الوعي الصهيوني. أمام قرار عدم القتل، فإن المحتل في الهبات الثلاث يتراجع بعد أن يستنزف كل أدوات "القمع الشرطي" من قنابل غاز وصوت ورصاص مطاطي ومياهٍ عادمة وخيالة واعتداء جسدي واعتقال، وفي ظل معادلة كهذه فالطريق مفتوح لفرض المزيد من التراجعات.
4- إذا كان شباب القدس قد تمكن بصدقه وعفويته من إيصال شرطة الاحتلال إلى مرحلة الانكسار والاستجداء خلال 13 يوماً من المواجهات، فالسؤال الأهم والأكبر : ترى لو كان الاحتلال يواجه حالة كهذه في كل الضفة الغربية وعلى كل نقاط التماس المفتوحة والطرق الالتفافية، فأين يمكن أن نصل؟ هذه تجارب تثبت مرة بعد مرة أن المقاومة الشعبية التي تعلن كل الفصائل الاتفاق عليها كافية بذاتها لفرض تراجع صهيوني واسع وفي مدىً زمني لا يتجاوز الشهور؛ فلماذا لا تُطلق يد مثل هذه المقاومة حتى الآن؟! وأي فرصة تاريخية كبرى تضيعها علينا أجندة التنسيق الأمني؟
5- بعد هذا الإنجاز الكبير يبقى أمام الشباب المقدسي تحدي أن لا يُمكّن الاحتلال من موازنته أو الثأر منه باقتحامٍ واسع للأقصى يوم 28 رمضان كما يخطط، فساحة الأقصى ليست أرخص أو أقل شأناً من ساحة باب العامود، ومن فرَضَ إرادته في باب العامود قادرُ بالإرادة ذاتها على كسر اقتحام28رمضان.
6- كانت جماهير القدس في هذه الأيام شريكةً في إعلان نظامٍ عالمي جديد آخذ بالتشكل، تعجز فيه الولايات المتحدة عن الحسم، بل تعجز حتى عن مدِّ حلفائها بأي قيمة مضافة، فبعد ثلاث سنواتٍ ونصف على إعلان ترامب القدسَ عاصمةً للكيان الصهيوني تنكسر شرطة المحتل في عاصمته المزعومة، ويثبت بالتجربة أن سقف "سيادة" الصهاينة على تلك "العاصمة" لا يصل إلى القدرة على إغلاق ساحةٍ عامة.
7- رغم كل الاستعراض المخزي لعلاقات الرذيلة السياسية التي أسستها أنظمة عربية مع الصهاينة، ثبت بالتجربة عندما جدّ الجد أن تلك التحالفات لم تُضِف شيئاً لقوة وإمكانات المعسكر الصهيوني، لكنها جعلت أصحابها العرب أضعف وأقل شرعية.