تسمّر ابني الذي يعدّ بحثه العلمي في اختصاص النانو تكنولوجيا (بعد مغادرة طبيب الأسنان) أمام بائع ألعاب العيد وقال: نحب فرد. قلت ضاحكة: تفدلك. أجاب: لا. نحب فرد وبالكعابر.. نتذكّر كي صغير ماخليتنيش نشريه.. كان أصدقائي يلعبون بفرد بالكعابر وكنت ألعب بفرد بالماء. ثمّ يهتف ضاحكا وهو يشير إلى كيس الملاكمة المعلّق مع قفّازتين: تتذكّر زادة كي شديت صحيح باش تشريهملي وأنا كنت نحب باور رينجرز. انفجرت ضاحكة ودفعته وأنا أقول: هيا نذهب.
في حمام الأنف الجنة والجحيم. الخضر والغلال بأنواعها على العربات في الأرصفة وبجانبها تتكدّس قطع الخردة للبيع والأحذية القديمة والثياب والآمال المعلّقة والزهور والمشاتل والنعناع والاكليل والزّعتر وبجانبها رؤوس خرفان مصليّة يتصاعد بخارها وغير بعيد السمك والقرنيط والسوبيا ونداء الصيّادين القادمين من البحر مباشرة ونساء يجمعن بقايا الخضر من أمام السوق ومتسوّلون مقعدون أحدهم كان يزحف في منتصف الطريق بين أقدام الناس المسرعة والأيدي القابضة على القفاف والأطفال التائهين دون كمامة يبيعون الأكياس البلاستيكية والنّساء أيضا، دون كمامة، وبين خطوة وخطوة يملأن أذنيك بالدّعاء بالرحمة ويتسوّلن بكلّ شيء.
وسط الزّحام كورونا تقف منحنية بعين مغطّاة برقعة سوداء كقرصان بحر وبصوت ماكر تهمس: لا تنسوني إنّي بينكم. فلا يلتفت إليها أحد. الكلّ منشغل بحياته الصغيرة الواقفة على حافة الموت. ابني يقول إنّه يمتلئ بالإحباط لما يشاهد. يصمت قليلا ثمّ يقول: نحب فرد.
ندخل المغازة حيث الزحام أقل. ننتقي بعض الشراءات وفق وصفة العشاء المتفق عليها. وأمام الكاسة يقول: لا أتصوّر أنّها تفوق 30 دينارا. أجيبه: بل ستفوق الأربعين. ـ نتخاترو. ـ باهي ـ على شنوة ـ على الفرد ـ أوكي. قالت عاملة المغازة بصوتها المتعب المتباطئ وهي تكاد تنام: أربعون ديانارا ومائة مليم. همست لابني: الفرد سيكون لي.
في باب المغازة طفل لا يفوق عمره الخمس سنوات طلب مني شراء كيس أسود. وهبته ما في يدي ولم يعطني شيئا. قلت له مبتسمة: ستساعدني بمنحي كيسا أضع فيه شؤوني. أنت قويّ وقادر على مساعدتي. أليس كذلك. ابتسم بخفّة ومدّ لي الكيس. قال ابني الذي يكتشف البؤس الإضافيّ في العالم: نشريو الفرد ونعطيوه للوليّد. قلت له مازحة: الفرد لي. سأطلق اليوم رصاصات كثيرة على هذا العالم.
بين الجزّار والخضّار وبائع الفراولة متسوّلون في كلّ ركن. كان الأمر وكأنّ عشرة آلاف متسوّل خرجوا من بوابة التاريخ ليدخلوا المدينة. جيش احتياطيّ امتلأت به الحواضر التونسية فترة المستعمر الفرنسي الذي مارس سياسة تفقير مدمّرة، صورٌ للفقر لا تجدها في الصور السياحيّة لتونس الثلاثينات والأربعينات، تلك التي يروّجها أصحاب الحنين. 10
آلاف متسوّل امتلأت بهم شوارع الحواضر في تونس بين الحربين وبعدها وبعضهم كانوا من المهاجرين الإيطاليين الفقراء الذين أبحروا من مرافئ بالرمو وغيرها قاصدين تونس قبلة المهاجرين تلك الفترة، والذين ساءت أحوالهم إثر هزيمة الفاشية في الحرب العالمية الثانية. كنت أسأل عن المكمَّم في التاريخ وعن الإنسان بكلّ أجناسه ضحيّة الجشع الرأسمالي في كلّ الأزمنة، وأتساءل في سرّي ماذا كان يقول المتسوّل الإيطالي في تونس ليستدرّ عطف الناس؟ ومن كان يجود عليه؟ الفرنسيون أم أثرياء تونس؟ وأفكّر في انفجار التسوّل مرّة أخرى اليوم، وفي سياسات التفقير نفسها، وفي أباطرة المال الذين يملكون مصيرنا منذ قرون، وفي الوباء، وفي الحكومة والخصومة، والانسحاب الجماعي أمام الموت الزاحف..
في شرودي قلت لابني: هيا نروحو.
ـ والفرد
ـ إي الفرد ليّ أنا
ـ لا ليّ أنا
اتّجهنا نحو البائع مسرعين. اختار ابني مسدّسا مذهّبا يشبه مسدّس أحد أفراد العصابات. سألناه عن الثمن فقال: 12د. قلت في سري: كنت ناخذو بألفين. وحين لاحظ تردّدنا أشار إلى آخر صغير وقال: هذا بعشر فقط. قلت لابني: هل تأخذ الصغير؟ فهتف البائع: هو لمن؟ قلت: ليه. قال ابني: لا. ليها. وضحكنا. قفز البائع على الفرصة وقال: مادام لابنك هذا فيجب أن يكون له سلاح كبير. وأمسك برشاش ضخم وقال: أتركه لكم بأربعين دينارا. كنت أفكّر أنّ ابني سيصبح من القوات المسلّحة لو اشترى هذا الرشاش الضخم، وسيكون موضع تنازع بين الرئاستين. فشكرته وقلت: أعطني المسدس الكبير مع 3 علب من الذخيرة.
في البيت شحنّا المسدّس بالذخيرة، وأطلقنا الرصاص في كلّ الاتّجاهات. قبل أن يعود كلّ منا إلى بحثه..
عن شيء ما في هذه الحياة.