يهدد الاحتلال الصهيوني سبع عائلات في منطقة كرم الجاعوني في حي الشيخ جراح بالإخلاء يوم الأحد 2-5-2021، وإذا ما أضفنا إلى ذلك ثلاث عائلاتٍ أخليت في 2008 و 2009، وخمساً أخرى أنذرت بالإخلاء حتى 1-8-2021 فإن المحصلة إن تم للاحتلال ما يريد ستكون إخلاء 15 عائلة من أصل 28 تسكن المنطقة، أي أنه يريد أن يقطع أكثر من نصف المسافة نحو هدفه في تهويد الحي خلال الأيام والشهور القادمة، ومنعه من ذلك يتطلب الانتقال من خوض المعركة في المحاكم الصهيونية إلى فعلٍ سياسي تتحمل الدولة الأردنية مسؤوليته أساساً، ومعها السلطة الفلسطينية والفصائل، لا بد أن يكون مبنياً على التوجه إلى المحكمة الجنائية الدولية، والمطالبة بملكيات أهالي الحي وعموم اللاجئين قبل عام 1948، وفعل ميداني يبادر للاشتباك على الأرض.
بداية لا بد من إحاطة ولو سريعة بخلفيات هذه القضية، وتحاول المقالة إجمالها بثلاث مقدماتٍ مركزة، ومن ثم تنتقل إلى الآفاق الممكنة لإفشال مسعى الاحتلال.
قضية حي الشيخ جراح: ثلاث مقدمات:
أولاً: كان حي الشيخ جراح من أول الأحياء الجديدة نشأة خارج سور البلدة القديمة، وكان الحي المفضل لعائلة الحسيني التي كانت تشكل كبرى العائلات القيادية في المجتمع الفلسطيني باعتبار النسب والموقع، وتقول الإحصاءات العثمانية إن منطقة الشيخ جراح ضمت 167 عائلة بحلول عام 1905. ساكنت الحسينيين عائلات النشاشيبي والجار الله، ومع انطلاق الحركة الوطنية الفلسطينية وتنافس العائلات التقليدية على قيادتها تحول حي الشيخ جراح إلى المركز السياسي للقدس، ففيه كان بيت المفتي الحاج أمين الحسيني وبيت منافسه رئيس البلدية راغب النشاشيبي، وكان بيت المفتي منطلق مسيراتٍ ومظاهرات في مناسبات متعددة، وقد اتخذت دول عربية وغربية كثيرة من الحي مقراً لقنصلياتها انطلاقاً من ذلك، وقد استمرت مكانة هذا الحي نسبياً بكونه مقراً لبيت الشرق ومدرسة دار الطفل العربي ومسرح الحكواتي.
هذه الخلفية تعني أن القضم الاستيطاني المتتالي لحي الشيخ جراح بالسيطرة على بيت المفتي وكرمه ثم حي كرم الجاعوني يهدف إلى تقويض مركز الحضور السياسي الفلسطيني في القدس، بل وتحويله بالمقابل إلى مركز حضور صهيوني ببناء مقرات حكومية مثل "القيادة القطرية لحرس الحدود" التي استهدفها الشـ.هـ.يد مصباح أبو صبيح في عمليته في 2016.
ثانياً: بدأ الوجود الصهيوني في حي الشيخ جراح عبر حركات صهيونية دينية مبكرة سبقت تأسيس المنظمة الصهيونية، إذ أنها زعمت بناء على قراءتها في الأوصاف الواردة في الكتابات الحاخامية أن الكاهن الأعظم المسمى "شمعون الصديق" مدفون في الحي، وهو كاهن ينسب إلى حقبة تأسيس "المعبد الثاني" ويزعم التلمود إنه الكاهن الذي التقى الإسكندر الأكبر عند احتلاله للقدس، وإنه كان آخر أعضاء الكنيست القديم، وقد اختار الصهاينة قبر الشيخ محمد معّو السعدي، جد عائلة حجازي المقدسية، والمعروف بقبر الشيخ السعدي، ليقولوا إنه في الحقيقة قبر "شمعون الصديق"، وذلك بناء على أوصاف المكان الشكلية في كتب حاخامية تعود للقرون الوسطى، واستحدثوا عنده مع نهايات عقد 1860 طقوساً تشابه طقوس الاحتفال بعيد "لاج باعومِر"، الذي يمكن تسميته اختصاراً "عيد الشعلة"، وهو الاحتفال الذي شاءت الإرادة الإلهية أن يموت فيه أمس 45 صهيونياً.
ويدور هذا الاحتفال الذي يجري في جبل الجرمق حول رمزٍ أسطوري آخر اسمه "شمعون بار يوحاي" وهو من حقبة الثورة اليهودية الثانية على الحكم الروماني، والتي تزعم المصادر اليهودية أنها تمت بين 132-135 للميلاد. ورغم أن الرجلين تفصل بينهما 400 سنة، إلا أن الحركات الدينية الصهيونية اختارت أن تحتفل بالأقدم منهما في ذكرى الأحدث، في سياق بحثها عن ربط جغرافيا القدس بالأساطير التوراتية والأعياد اليهودية بأي شكل من الأشكال، فبدأت تزور الضريح في هذا العيد وتحتفل بطقوس الشعلة عنده.
كانت الاحتفالات ووفود المستوطنين المتزايدة تفسد المحصول في تلك المنطقة التي كانت مزروعة، فأخذ المزارعون يجبون رسم دخول يساوي قيمة محصولهم الربيعي الذي يتم تخريبه بهذا الدخول والخروج، ثم جمعت الجمعيات الاستيطانية مبلغاً واستأجرت الأرض من المزارعين عام 1875م.
ثالثاً: يزعم المستوطنون أنهم بنوا وحدات سكنية في ذلك الحي، وهذا بخلاف الوقائع. في 1948 بقيت هذه الأرض تحت الحكم الأردني الذي تعامل معها باعتبارها ملكية حكومية، وعندما أرادت الأونروا التسوية مع بعض اللاجئين في القدس عام 1956 لتقليص عملياتها، منحت الحكومة الأردنية تلك الأرض ومساحتها 18 ألف متر مربع على شكل قطعٍ لـ 28 عائلة، وبنيت لهم بيوت بتمويل الأونروا مقابل التنازل عن بطاقات المؤن، ثم تعهدت الحكومة الأردنية بنقل الملكية للسكان بعد ثلاث سنوات، وهو ما ما لم يتم وتأخر لأسباب بيروقراطية حتى احتل الشطر الشرقي من القدس عام 1967.
بعد الاحتلال وضع الصهاينة الأرض تحت تصرف حارس الأملاك العامة بوصفها أملاكاً حكومية أردنية، فانتهز المستوطنون المتدينون الفرصة وزوروا عقد شراء عثماني بنفس تاريخ عقد الإيجار وقدموه للحكومة الصهيونية التي سجلت بموجبه الأرض لصالح لجنة تراث اليهود الشرقيين ولجنة تراث اليهود الغربيين، دون أن تُعلم السكان، الذين عندما علموا عام 1972 أوكلوا محامياً يهودياً هو توسيا كوهين، والذي تآمر مع المحكمة للإقرار بملكية المستوطنين شرط اعتبار موكليه "مستأجرين محميين" لا يجوز إخراجهم بموجب قانون الحماية لعام 1968، وهو قانون عدل لاحقاً ليسمح بإخلاء الأجيال اللاحقة من المستأجرين.
بنت الحكومة الصهيونية الملكية على عقد مزور، وأكدتها المحكمة الصهيونية بخيانة محامي أهل الحي لموكليه، ثم باتت تتمسك باعتبار الملكية غير قابلة للبحث، حتى عندما أبرز المقدسي سليمان درويش حجازي وثائق الوقف الذري الأصلية العائدة لعام 1814، وخاض معركة قضائية على مدى عقد ونصف انتهت عام 2010، رفضت خلالها محكمة الاحتلال اعتبار أوراقه التي قدمها، ويبدو أن محامي المستوطنين شعروا باهتزاز موقفهم بتحرك حجازي، فنصحوا اللجان ببيع تلك الأرض فباعتها لجمعية استيطانية تسمي نفسها "حموت شلوم" ثم لشركة نحلات شمعون ليميتد لاستحداث وقائع تحول دون بحث الملكية، وهذا ما كان.
اليوم تصل هذه المحاكمات لنهاياتها، نجح خلالها أهل الحي بكسب الوقت، لكن المحكمة في النهاية تقوم بواجبها كذراعٍ استعماري.
ما العمل؟
يعمل أهل الحي اليوم على مسار قانوني باعتباره أحد أهم المساحات المتاحة لهم، ولذلك يطالبون الحكومة الأردنية بأوراق تعزز موقفهم، وهي بالاسم: نسخة موقعة ومروسة أصلية من الاتفاقية معهم، ونسخة أصلية من تعهد الحكومة الأردنية بنقل الملكية إليهم، وقد أعلنت الحكومة الأردنية تسليم الأوراق للسلطة الفلسطينية وليس لأهل الحي مباشرة أكثر من مرة، وكانت الخارجية الفلسطينية تصدر بيان شكر في كل مرة، لكن ما كان يُسلم حتى الآن هو ذات الأوراق الموجودة بيد أهل الحي، وكان الإعلان الأخير أمس الخميس فلعله حمل شيئاً جديداً.
بكل الأحوال، إذا كان اللجوء للمحكمة الصهيونية خياراً منطقياً لأهالي الحي من موقعهم لشراء الوقت ودرء الإخلاء عن أنفسهم، فإنه ليس كذلك لدول، فهو ليس خياراً سياسياً مقبولاً لدولة، أن تقف مكتوفة الأيدي تقدم بياناتها لمحكمة الخصم لعلها تنصف سكاناً تستهدف أرضهم بمشروعٍ إحلالي. لنكن صريحين، حتى الآن معظم التحركات تتم في مربع الراحة الصهيوني، وما لم تتغير طريقة العمل فالنتيجة الحتمية هي خسارة الحي.
هناك ثلاثة آفاق متاحة لأخذ المعركة إلى مستوىً مختلف:
الأول: أن تأخذ الحكومة الأردنية القضية إلى المحكمة الجنائية الدولية، وهي المصادقة على ميثاق روما المؤسس للمحكمة منذ عام 1998، فما يحصل ببساطة أن أصحاب الأرض يطردون للمرة الثانية من بيوتٍ امتلكوها، وأن الغزاة المستوطنين يعوّضون مرتين عن أراضٍ استأجروها لفترة محدودة من الزمن، مستغلين ثقافة سماحة كانت تسود هذه البلاد، وهذه جريمة حرب موصوفة: طرد أهل البلاد وإحلال سكان القوة المحتلة في مكانهم.
الثاني: يحتج الاحتلال في رفضه للعودة ولإعادة ملكيات اللاجئين ما قبل النكبة، بأن طَردَهم من ديارهم وسلب أملاكهم كان نتيجة حربٍ خسروها فليس لهم حق العودة أو التعويض فيها، وهي حجة مخزية مضحكة وها هو يخالفها بنفسه حين يدعي لليهود الذين خرجوا من شرق القدس في تلك الحرب وما قبلها حقهم في استعادة "أملاكٍ" مزورة. باختصار ما يقوله الاحتلال بالممارسة أنه وبمنطق محكمته هو يقر بحقنا القانوني باستعادة أملاكنا المسلوبة عام 1948 والعودة إليها، وهذه نقطة غائبة حتى الآن في هذا الصراع، ولا بد من البدء بسكان الشيخ جراح، فعودتهم لأملاكهم التي طردوا منها في البقعة والطالبية غرب القدس، وفي المجدل وحيفا، تغنيهم عن الحاجة للسكن في الشيخ جراح، ما يتيح عودة الأرض لعائلة حجازي، أصحاب وقفها الذري.
الثالث: الاشتباك الميداني، لقد شاهدنا أحداث هبة باب العامود تصل حي الشيخ جراح وهذا ما لم يكن في حسبان المحتل، وقد رأينا من قبل الملحمة التي خاضتها الحاجة أم كامل الكرد على مدى سنوات في موجة الإخلاء الأولى عام 2008، ثم المواجهة التي خاضوها عائلات الغاوي وحنّون، وكلهم أقاموا خيام اعتصام هدمت عشرات المرات، ووقفوا في الميدان دفاعاً عن أملاكهم. اليوم وبميزان القوى الحالي، وبعد هبة باب العامود، فإن الاشتباك في الشارع دفاعاً عن الحق هو المقدمة التي يمكن أن تجر أي رد فعلٍ رسمي عربي، فنحن أمام نظام رسمي متهالك، لا يتوقع منه الفعل إلا إذا اضطر إليه اضطراراً تحت الضغط، وهذا يبقى عبئاً على أهالي الحي وعلى المقدسيين والفلسطينيين، وعلى كل من يتبنى قضيتهم بعدالتها الناصعة.
في المحصلة، المساحات الأهم والأفعل في الدفاع عن هذا الحي ما تزال لم تفعّل، ولنتذكر معاً أن تهديد المدعية العامة لمحكمة الجنايات الدولية في شهر 10-2018 بأنها قد تنظر في اعتبار إخلاء الخان الأحمر جريمة حرب قد أدى مع ضغطٍ شعبي محدود إلى تأجيل إخلاء الخان الأحمر إلى أجلٍ غير مسمى، رغم أنه كان أجندة مركزية للاحتلال لتغيير حدود القدس وضم كامل كتلة أدوميم الاستيطانية مستفيداً من قرار ترامب، واليوم إذا فُعّلت المساحات الثلاث أعلاه فربما نكون قادرين على فرض تراجعٍ أكبر وأكثر أهمية يكمل سياق التراجعات الصهيونية في القدس.