تواضع الناس على اعتبار النزاهة التزاماً بالآمر الأخلاقي: لا تسرق، لا ترتش، لا تكذب، لا تخدع وهكذا. ومن الصعب تخيل الحياة المشتركة بدون آمر أخلاقي. ولكن هناك نمط من النزاهة لا يقل أهمية عن النزاهة الأخلاقية في السلوك، ألا وهي النزاهة المعرفية. وعندي أنه لا يمكن الفصل بين النزاهة الأخلاقية والنزاهة المعرفية. بل قل إن النزاهة المعرفة هي صورة من صور النزاهة الأخلاقية.
ما معنى النزاهة المعرفية؟
النزاهة المعرفية هي أن تمتلك الواقع معرفياً دون أية نزعة لتزييفه وإخفائه بدواعي الانحياز والمصلحة.
صحيح بأنه لا تتحقق النزاهة المعرفية واقعياً إلا بالالتزام بالآمر المنطقي والمنهجي، ولكن وضع مطلب الحقيقة الموضوعية هدفاً للتفكير، حتى لو لم نصل إلى الهدف مطلب حتى للذين لم يتوافروا على معرفة منهجية. فمن نزاهة المعرفة أن نربط بين النتائج وأسبابها الواقعية العميقة والأساسية. من نزاهة المعرفة أن لا ننكر الوقائع التي تفقأ العين.
إذ لا فرق بين أن تكذب على الآخر من جهة، وتكذب على المنطق والواقع من جهة ثانية لترضي من هو في مصلحته الإنكار. بل إن إنكار الواقع لهو أشد أنواع الكذب خطورة.
ليس التفكير النزيه بمعصوم عن الخطأ، بل هو المنزه عن النية بارتكاب الخطأ، إذ ذاك يغدو نقيض النزاهة هو الزيف المقصود من قبل صاحبه. فاللانزاهة المعرفية ليست سوى تفضيل الباطل على الحقيقة، والزيف عن الواقع.
فمن معايير نزاهة التفكير الربط بين النتائج وأسبابها العميقة والأساسية. القول إن الثورة السورية قد سببت شرخاً مجتمعيا فهذه اللانزاهة بعينها وصادرة عن عقل خبيث معاد للحرية. فقائل هذا القيل يدرك حقيقة من دمر النسيج الاجتماعي المعشري للبلاد.
وبالتالي الثورة هي نتيجة للدمار وطريق لتجاوزه وليس سبب تدمير الانتماء الوطني. إنها نتيجة ممارسة السلطة لأشد أدوات تدمير المجتمع فتكا من قتل وسجن وكبت حريات وتمييز اعتداء على أملاك الناس ومستقبلهم.
إنها وقد دمرت النسيج المجتمعي خوفا من التماسك المجتمعي أسست لأن يعلن الشرخ الاجتماعي عن نفسه إعلانا لما أنتجته السلطة.
كل مناقشة للواقع ينسى السلطة وكل تجاوز للواقع دون تجاوز ماهية هذه السلطة نوع من عدم النزاهة وخبث أغبياء.
من اللانزاهة المعرفية أن تجد التبريرات الكاذبة والأيديولوجية للسلوك الذي دمر الأوطان، والحديث عن الموجبات التي حملت سلطة لاستدعاء قوات الاحتلال للدفاع عن سلطة منبتة.
حتى ليمكن القول بأن كل القنوات الفضائية المؤيدة للاحتلال هي فضائيات اللانزاهة المعرفية. إنها تكذب في وضح النهار.
يخرج خبير استراتيجي في فضائية لحزب الله يجيب عن سؤال: لماذا ليس هناك رد على القصف الإسرائيلي على مواقع ميليشيا حزب الله وإيران وقوات السلطة؟
الجواب الذي لا يخفى على أحد والمرتبط بفهم الواقع أن السبب هو عجز وخوف. ولكن جواب الخبير الاستراتيجي المدافع عن العاجزين يقدُ مصطلحاً عظيماً حين يجيب: هذا هو الصمت الاستراتيجي.
صحيح بأن المرء لا يسعه إلا أن يضحك ويقهقه أمام هذه الشطارة ثقيلة الظل، ولكنه يحزن لوصول اللانزاهة إلى هذا الحد.
فضلاً عن ذلك، إن أسوأ أنواع اللانزاهة المعرفية ذلك الخطاب الذي يتفوه به أصحاب العمائم السوداء والبيضاء الذي يمجدون الطاغية ويكيلون له المدائح دون وازع من ضمير، ودون خجل في إخفاء الحقيقة.
النزاهة المعرفية موقف صارم من الانتماء إلى الحقيقة الواقعية، وتحرر من كل أساليب الزيف اللغوي الذي يخفى سطوع الواقع.