لا شك أننا نتألم لكل فقد، وأننا ندعو لكل من يعايش الفقد والجراح والتشرد، لكن هذا الشعور الإنساني بكل شقوقه الغائرة لا يجوز أن نسمح بتحوله إلى عنوان انكسار، أو تأسيسه لحساسية إنسانية يراد لها أن تأخذنا للتخلي عن استعدادنا للفقد والمواجهة، لأن نصبح أكثر قابلية للتراجع والهزيمة وأقل صبراً وأقل استعداداً للنصر.
لقد كان الفقد إحدى التجارب التي اختارتها العناية الإلهية لسيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم في الارتقاء به إلى أسمى درجات الإنسانية، فأهّلته لتلقي الرسالة الخاتمة والمضي بها إلى العالم، لقد فقد الأب والأم والجد والزوجة والعم والأبناء والبنات، لم تكن عنواناً لانكساره ولا لتراجعه ولا انكفائه على ذاته ومعالجة جراحها النفسية، بل جعلته يحمل راية الحق والعدل إلى البشرية.
اليوم يدفعنا هذا الفقد إلى الوفاء والثأر، ليس الثأر الحامي لنفسٍ بنفس أو برجٍ ببرج فحسب، بل إلى الثأر البارد الناجز الذي لا يكتمل إلا بتحرير آخر حبة ترابٍ من فلسطين والتخلص من آخر أثر للكيان السرطاني الصهيوني على أرضنا، يدفعنا الفقد إلى الثأر مدخلاً لطريق استرجاع الحق وانتزاع العدالة لأنفسنا بالقوة مهما طال الزمن... أما التباكي على ضحايانا لكسر ظهرِنا بهم ودفعنا لقبول الضيم وتفضيل حياة الكلاب على العيش بكرامة فذاك لا صلة له بالإنسانية، بل ليس إلا توظيفاً خبيثاً لإنسانيتنا ضدنا.
في اعتقادنا وممارستنا هذه الحياة ليست النهاية، والعدالة لا تكتمل إلا في الآخرة، وكل مناحي الحياة بما فيها السياسة محكومة بهذه القاعدة، وحتى الفلاسفة المسلمون الذين اتُّهموا بالبعد عن الدين قرروا هذه الحقيقة واضحةً ساطعة، فالمدينة الفاضلة عند الفارابي هي تلك التي تقرب أهلها بأفرادهم ومجموعهم إلى الخلاص الأخروي، معيارها لا يكتمل بالعدالة الأرضية وحدها، ولا بالانتصار الأرضي وحده،
ومن هنا يصبح للرفض معنىً وللمــقــاومة معنىً وللجهاد معنىً وللشهادة معنىً، فالشهادة ليست "نهايةً مؤسفة"؛ بل هي البوابة الأوسع إلى الرضى الإلهي، والبداية المشرفة للخلود الأخروي، والطريق الذي يأخذنا إلى استعادة الحق وانتزاع العدالة وفرض الانتصار.