من ناحية تقدير الموقف بحساب ربح القوى المتصارعة و خساراتها يبدو " فسطاط المشيشي " و حزامه في طريق تسجيل نقاط تقدم ملحوظ على ملاحقه في قصر قرطاج و جبهته .
اقتصاديا تبدو زيارتا ليبيا و قطر و ما ستتلوهما من زيارات اخرى حبال نجاة تمتد في سياق رياح دولية مواتية ميالة الى حفظ ستاتيكو الاستقرار العام في تونس نظرا لما تمثله مغامرات الذهاب الى زعزعته من مخاطر تفتح على مجهول لا تتحمله القوى المالية و التوازنات العامة لمراكز النفوذ المحلية و الاقليمية فضلا عما يتجه اليه ترتيب دولي لا يتناقض مع حفظ الانتقال التونسي رغم تعثره .
سياسيا يبدو المشيشي و حزامه مستفيدا بشكل براغماتي من فداحة الاخطاء التي يراكمها فسطاط جبهة قرطاج كلما تعجلت اطراف هذه الجبهة في حسم معركتها بأساليب تجمع في مواجهتها خصوما يوحدهم باستمرار التوجس من هذه الاساليب الموحية بالمغامرات المخيفة ذات الطعوم الانقلابية و المفتوحة على نزوعات استبداد و افتكاك للسلطة بفجاجة تتجاهل بغباء كبير تحفظات العقل العميق للدولة و تطور. "العقيدة الديمقراطية" للأجهزة و قلة ارتياح كبرى المنظمات و مراكز النفوذ للتصرفات الرعناء لبعض القوى السياسية الهاوية المتجمعة حول الرئيس لتجعل من نزواتها الشخصية خطة عمل سياسي في واقع محلي و دولي لا يعير اهتماما للرغبات الذاتية .
ورقتا القوة المتجمعتان في يد المشيشي و حكومته و على اهميتهما لا تمنعان من وجود مسامير عرج كثيرة في اقدام الحزام :
وضعية قلب تونس و سجن رئيسه فضلا عن تباين وجهات النظر داخل كتل الاصلاح و الوطنية و تحيا و استمرار رغبة اجنحة الاكاديمية و تنظيم الطلبة في الهيمنة و الاستقطاب مع النهضة فضلا عن الصراع الزعاماتي بين رموز الاكاديمية و التنظيم و تعدد مصالح اللوبيات الداعمة لهما و المشتغلة بهما يجعل الحزام قليل " سنترة " تهدد بانحلاله في كل لحظة .
غياب الحسم النهائي في خيار الاصلاح الهيكلي و الذهاب الى توافقات كبيرة مع اتحاد الشغل بعيدا عن الاستمرار في الخضوع الى قوى اقتصاد الريع و الزبائنية التابعة و ما يفتح عليه هذا التردد من مخاطر الاحتقان الاجتماعي و اهتزاز الثقة الشعبية في العملية السياسية برمتها ما يخلخل باستمرار مشروعية معطوبة يحاصرها قصور ذاتي للحكومة و حزامها و تهديد موضوعي من قوى متربصة بالاستقرار او متحفزة لمصادرة استقلال القرار الوطني .
وضع الحزب الاكبر في الحزام يلقي بظلاله ايضا على وضعية حزام هش . النهضة تعاني الان رغم انخفاض المخاطر في التقدير العام من ازمة الانتقال القيادي و صعوبات الحسم في الخط السياسي لتباين وجهات النظر بين اجنحتها في مسألة التحالفات و شكلى العلاقة برئيس الجمهورية بين اقرار المواجهة او مواصلة محاولة رأب الصدع معه و وضعية التوتر الدوري داخل البرلمان و توازن الضعف المتحرك تحت قبته و الصداع الذي يحاصر رئيسه و رئيس الحزب في ان واحد مما يجعل خطواته هنا محسوبة بانعكاسها هناك و العكس بالعكس .
ليس أمام المشيشي و حكومته و الحزب الاكبر في حزامه الا خيارات محدودة ليس من السهل الحسم في احدها :
الاستمرار في خطة " المرور بقوة " و الاستثمار السريع في اخطاء الخصم و اوراق القوة عبر الذهاب الى حكومة سياسية بمن اراد دخولها بعد تحصين المرور بتوافقات دقيقة مع المنظمة الاكبر على برنامج الاصلاح المرحلي و تمرير قانون الانتخابات الجديد و استكمال تركيز المحكمة الدستورية بما يعني اختيار المواجهة مع قرطاج و جبهته و لكن هذا الخيار يقتضي تحالفا استراتيجيا بين من يريد البقاء في الحزام او الالتحاق به و مع المنظمات الكبرى الى درجة يتحول معها هذا التحالف الاستراتيجي الى جبهة سياسية صالحة لقيادة البلاد لمدة لا تقل عن سنوات العهدة الانتخابية او قبل نهايتها بسنة واحدة لا اقل ....
هذا الخيار سيقتضي تنازلات كبيرة و تسويات موجعة من مراكز النفوذ اقتصاديا و تجاوزات براغماتية ذات طابع جراحي عميق للتباينات السياسية و الايديولوجية بل و " الطبقية " لكنها لو وقعت ستضمن لقوة تاريخية جديدة ادارة البلاد لفترة معقولة بدعم رياح محلية و دولية ستطلب تنازلات يتفاوت حجمها بحسب تماسك هذه القوة التاريخية .
الخيار الثاني هو مواصلة مداورة الازمة عبر التدوير المرحلي للزوايا و ممارسة المناورة و السير على حافة الهاوية بما يتطلبه هذا الخيار من مهارة الاستثمار في التشبيك و "التفكيك" و انتظار تغير طبيعي لموازين القوى عبر اعتماد السياسة السياسوية و تكتيكات التحييد و التحشيد المتحركة و الحلول الموضعية و قضم الميدان عبر اسلوب النمل السياسي لكن هذا الخيار لا يتمتع برفاهة استقرار المشهد الاجتماعي و الاقتصادي لضمان " لعبة سياسية" لا تكون مأمونة الا في وضعية " ديمقراطية مستقرة " .
و الله اعلم ....