لعل من اخطر نتائج حُكم الغوغاء هو ان يتطبّع الناس بطباعهم، فيسري التوتّر و التنقير والتلقيط الي كل شرائح المجتمع . هذه العدوى اصبحت تطال "الذين يقرؤون ويكتبون"، فعوض ان يشخصوا لنا ازماتنا ويجتهدون في كيفية تجاوزها، نراهم قد غرقوا في التّنقير اليومي، واصبحوا "شُرّاحا" يأوّلون ما ينطق به "قادة" الغوغاء في البرلمان او في قرطاج.
اعتقد اننا لم ننتج بعد المُثقف او المفكر الذي يكون في مستوى المرحلة: هناك مراحل تاريخية لا تتضح لأهلها الا بعد ان تنعكس في مرآة عقل ارتفع الي المستوى الذي جعله يُشرف عليها، فيُحلل اسبابها ويشخص امراضها ويعدد قواها ويفكك صراعاتها. وهذا لن يكون ابدا ممن يغرقون في نثر الحياة اليومية. انه هناك، قد يكون هناك، بعيد عنا، يرانا ولا نراه، يكتب عنا، وتبدو منه، احيانا، ابتسامة ساخرة.
مشكل النهضة ما نَذهَلُ عنه هو اننا نطرق للمرة الثالثة باب النهضة العربية، وهو امر لم يذهل عنه الجيل الذي عاصر الاستقلال الوطني من المفكرين والمثقفين، مثل عصمت سيف الدولة وعابد الجابري وهشام جعيط. لقد كان هؤلاء على وعي حاد بضرورة استئناف النهضة العربية، لذلك عادوا الي اسباب الانحطاط، وبواكير الوعي بالتخلف، ولفكر الاصلاح مع محمد عبده والافغاني، ولفشل النهضة الاولى مع محمد علي، ولهزيمة عبد الناصر، وفشل الدولة القطرية، وادلى كل من هؤلاء المفكرين بدوله في التشخيص وفي تصور ادوات التغيير وطرقه وغاياته. وانه لزام على انصاف المثقفين، الذين هم نحن الان، ان نُعيد التفكير في مشكل النهضة، وفي اعطاب هذه الجماعات التي ورثت الحكم بعد ثورة قامت بها الشعوب في بعض الاقطار العربية، ولم يشاركوا فيها الا كما يشارك المسافر بركوب القطار، ويبدو ان محطة نزولهم قد اقتربت.
امراض "الثورة/الانقلاب"
انتجت الصدمة الهائلة التي احدثتها حملة نابليون على مصر وعيا حادا لدى المسلمين بالتخلف قياسا بالآخر المسيحي، وهو ما انتج حركة الاصلاح الديني. لقد ساهمت "العروة الوثقى" في نشر الوعي بضرورة النهوض، كما انتجت حركة الاستعمار واحتلال فلسطين وهزيمة الايام الستة ثلاث تيارات "ثورية/نهضوية" هي : التيار الاسلامي، والتيار القومي والتيار الماركسي. يشترك هؤلاء الثلاثة في كونهم ردة فعل على الانحطاط والهزيمة، وفي كونهم ادوات نهوض. لقد مثلوا جميعا اجابات مختلفة على سؤال واحد كان قد طرحه قبل حوالي قرن "شكيب ارسلان" : "لم تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟". فما هي اداة التغيير؟ من الطريف ان نلاحظ ، مرة اخرى، التقاء هذه الحركات النهضوية في نفس التصور لأداة التغيير:
النخبة التي تُغيّر المجتمع. ان المجتمع، عند التيارات الثلاثة، موضوع التغيير وليس اداته، وهذه فكرة كانت ملائمة ل"ابستيمية" الخمسينات والستينات من القرن الماضي، الا انها اصبحت عائقا وعقبة كأداء في القرن الواحد والعشرين. لقد نشأ وفكر وتحرك ثلاثتهم ضمن "ابستيمية" سانسيمونية (نسبة الي سان سيمون)، مفادها ان الجماهير جاهلة وعاجزة وانه لا بد لها من نخبة طلائعية تقودها الي الخلاص. وكل فريق له تصور ومميزات لهذه النخبة،تصور يلائم طبيعة المجتمع الذي يريد انشاءه. ومن هنا جاءت كل الطواعين والامراض: الاستعلاء عن الجماهير والتشكيك في الديمقراطية كطريق للتغير، نظرا لان الشعوب لا تعرف مصلحتها، وكذلك صراع النخب فيما بينها، والاستقواء بالأنظمة القديمة او بالاستعمار لحسم الصراع. ما جعل هذه التيارات تُعوّلُ على فكرة النخبة ليس فقط وضعية الجهل والامية في دولة ما بعد الاستقلال، وانما هناك مشكلة ضاغطة هي مشكلة الزمن، ازدادت حِدة خاصة بعد احتلال فلسطين، وقد عبر عصمت سيف الدولة عن ذلك في الكثير من المناسبات: كلما تاخر التغيير كلما ارتبطت الاجيال القادمة من المستوطنين بالأرض.
ميشيل عفلق وعصمت سيف الدولة: "الكومندوس" التقدمي
حمّل كل من ميشيل عفلق وعصمت سيف الدولة مسؤولية القيام بالثورة الي القوميين التقدمين. لقد حمّل كلاهما عملية التغيير الجذري، التي يسميها م.عفلق "الانقلاب"، وكذلك نديم البيطار، ويسميها ع.سيف الدولة "الثورة"، حمّلوها الي الطليعة العربية، وهي عند عفلق، الاعضاء الذين ينتظمون داخل حزب البعث العربي، وهي عند ع.س. الدولة الاعضاء الذين ينتمون الي التيار القومي التقدمي. يرى م. عفلق ان اخص مميزات اعضاء حزب البعث هو تشبعهم بالروح "الانقلابية" "ان تحقيق الانقلاب العربي المنشود رهن بتجسيد الروح الانقلابية في نفوس اعضاء البعث العربي وعقولهم" (في سبيل البعث، الط 2، دار الطليعة، ص 68). علينا ان نفهم لفظ "الانقلاب" في لغة كل من م. عفلق ونديم البيطار على انها لا تعني بالضرورة الانقلاب العسكري، وانما الثورة المباغتة والجذرية التي تقلب الواقع السياسي والاقتصادي. في كلمة "ان البعث العربي يتلخص في كلمة الانقلاب" (في سبيل البعث، ص 61). هناك جملة يستعملها م. عفلق تجعلنا نفهم جوهر هذه النظرة ومآلاتها ايضا "ان الاقلية مهمتها ، في الواقع، ان تترجم حاجات الشعب العميقة" (ص39)
من يقوم بالثورة/الانقلاب؟ انه التنظيم الثوري، حزب البعث العربي "ياتي العمل الانقلابي في كل بلد وفي كل شعب من جهة اقلية منه، اقلية واعية لواقع امتها، مؤمنة بقضية بلادها، هذه الاقلية تتقدم هنا لتمثيل الشعب قبل ان يفوضها الشعب تفويضا صريحا بهذا التمثيل" (ص91)
يسير عصمت سيف الدولة في نفس الاتجاه ويحصر مهمة انجاز الثورة في "التنظيم القومي" الذي يُعرّفه في "الاسلوب" (الجزء الخامس من نظرية الثورة العربية) ب"قوة جماهيرية منظمة ومُفرَزَة على اساس التقائها على نظرية في حل مشكلات التطور الاجتماعي للامة العربية" ) (ص44 ، الطبعة الاولى دار الطليعة 1979). ما اسم هذا التنظيم؟ "لا يهم. غير ان اصدق الاسماء الدالة على طبيعته سيكون "الطليعة العربية"، انه اسم يصف ماهيته، فهو طليعة من حيث هو جزء غير منفصل عن الشعب العربي يشُقُّ امامه الطريق الي التقدم" (ص45). مِمّ يتشكّل التنظيم القومي الواحد؟ من القوى العربية التقدمية الموجودة في الاقطار العربية المُجزّءة. ان النصر لا يكون الا بتوحيد الاستراتيجيا، وهذا لا يكون الا بتوحيد التنظيم وتوحيد القيادة، وبالتالي لابد من وحدة القوى العربية التقدمية في "تنظيم قومي ذي قيادة عربية واحدة، يضم كل القوميين التقدميين ويقود حركتهم على المستوى التكتيكي، طبقا لإستراتيجيا نضال قومي تصل بين واقع الامة وغاياتها البعيدة" (ص55).
لا يُفوّتُ عصمت سيف الدولة، في كل مرة، الفرصة ليشُن هجوما لاذعا على التنظيمات القطرية التي تنتحل القومية، يقول " عندما تقصرون مسؤوليتكم على جماهير اقليمكم، وتقبلون ان يكون اخرون مسؤولين في كل اقليم عن جماهيره، وعندما تلتقون يتحدث كل منكم باعتباره ممثلا لاقليمه..ما الذي في طاقتكم؟ اقصى ما في طاقتكم؟ اليس هو الاستيلاء على السلطة في الدولة الاقليمية؟ ان تصبحوا حكاما؟" (ص57)
نجد عند كل من ميشيل عفلق وعصمت سيف الدولة وعيا حادا بمشكل التخلف، كما نجد جهدا جبارا وعزيمة لا تلين في تصور اسباب التخلف وطرق النهوض وادواته وغاياته، غير ان الراجلان كان ابناء عصرهما، تحدثا من موقعهما ومن ظروفهما، وقد ردد عصمت سيف الدولة بان ما قدمه مجرد اجتهاد وخاطب الاجيال القادمة "انتم ادرى بزمانكم". ولعل الرجل كان واعيا بأخطر المفاهيم التي تمحور عليها فكره وهو مفهوم "التقدمية" لذلك تركه قابلا للتعديل والاضافة حسب العصر، وهو ما سوف نعود له بالتفصيل. ما يعنينا ان كلاهما عوّل على "النخبة" في انجاز التغيير الثوري، وان كلاهما يجعل الجماهير موضوعا للتغيير والقيادة وليست اداته، وان كلاهما يعطي لهذه النخبة مضمونا عقائديا وفكريا وليس مضمونا اجتماعيا واقتصاديا، بمعنى ان حزب البعث والطليعة العربية ليسا "طبقة" لها موقعها ومصالحها في اسلوب الانتاج، كما هو الحال بالنسبة لأداة الثورة في الفكر الماركسي: "البروليتاريا". سنكون اكثر دقة عندما نقول بان اداة التغيير لديهما لها كل مقومات "الجماعة": العمل السري، الهرمية، الالتقاء على ايديولوجيا، مشروع الخلاص، ادعاء الفوقية، العمل على امتلاك السلطة كأداة للتغيير الاجتماعي.
سيد قطب وفتحي يكن: "الفرقة الناجية"
ان هاجس القلب الجذري للأوضاع كان حاضرا بقوة في كتابات الاسلاميين منذ الخمسينات، وليس علينا، لندرك ذلك الا العودة الي كتاب "الحركة الاسلامية المعاصرة في الوطن العربي" (مركز دراسات الوحدة 1987) او "الاخوان المسلمون" للاوليفي كاراي و جيرار ميشو (ٌغاليمار 1983).وسوف نركز على عَلمين من اعلام التيار الاسلامي هما سيد قطب وفتحي يكن حتى نتبين البنية الواحدة او "الابستيمية" الواحدة التي تحرك فيها الفكر القومي ومفكرو الاسلام الحركي والفكر اليساري، برغم ما يدعيه منتسبو هذه التيارات من "اختلافات جذرية".وسوف نعود لاحقا لهذه الاعاقة المشتركة والتي هي سبب الصراع والفشل.
لا يستعمل سيد قطب، سواء في "في ظلال القران" او في "معالم في الطريق"، كلمة "ثورة" او "نُقلة بعيدة" او "تبديل سياسي" الا في مواضع قليلة، في حين انه يطنب في استعمال مفردات من قبيل "الجهاد" و"الحركة"، اما فتحي يكن فانه يستعمل "انقلاب" و"انقلابية اسلامية" و"جهاد" ولا يذكر كلمة "الثورة" الا نادرا. يُعرّف الانقلاب فيقول "هو تحويل كيفيّ للمجتمع وتغيير جذري لقواعده واصوله" (الاسلام فكرة وحركة وانقلاب، ط بيروت، ص 100). كيف يقع هذا الانقلاب؟ عبر الطليعة المؤمنة. اما مفهوم الثورة فهو عنده مرادف للإسلام في حقيقته "الاسلام ثورة وانقلاب، ثورة تمتد الي كل جوانب الحياة ". اما سيد قطب فهو يدقق معنى الثورة في "معالم في الطريق" فيقول " اعلان ربوبية الله وحده للعالمين معناها الثورة الشاملة على حاكمية البشر في كل صورها واشكالها وانظمتها" (67 الط. العاشرة، ). اما معنى الجهاد فهو عند كلاهما مرادف ل"النضال اليومي الذي يقوم به التنظيم الحركي" في سبيل "هدم الجاهلية بكل صورها سواء كانت جاهلية افكار ام جاهلية اخلاق او جاهلية نُظُم وتشاريع، ومن ثم بناء المجتمع على قواعد الاسلام في شكله ومحتواه" (الاسلام فكرة وحركة وانقلاب، ص 39).
من يُنجِزُ الثورة وكيف؟
يختلف كل من سيد قطب وفتحي يكن عن حسن البنا وحسن الهضيبي في تصور النظام السياسي القائم، فاذا كان حسن البنا والهضيبي لا يريان الانظمة القائمة "جاهلية" يجب قطع الحوار معها، وانما لهما نظرة سُنية تقليدية تقبل التسوية مع السلطة القائمة ولا تراها كافرة ( اليفي كاراي وجيرار ميشو "الاخوان المسلمون، ص 99)، فان قطب مع القطيعة التامة مع أي نظام قائم (قارن مع عصمت سيف الدولة). ان من ينجز هذا "الانقلاب" عند سيد قطب هو تنظيم قادر على مواجهة هذه الجاهلية بفعالية "لابد من تجمّع عضوي حركي اقوى –من الانظمة- في قواعده النظرية والتنظيمية وفي روابطه وعلاقاته ووشائجه". (ص54). ان سيد قطب لا يتردد في استعادة مفهوم جوهري نجده لدى ميشيل عفلق وهو "البعث" "لابد من البعث الاسلامي، مهما كانت المسافة شاسعة بين محاولة البعث وبين تسلم القيادة" (ص 9).
علينا ان نتخلص من الوقوع في حبال الايديولوجيا حتى نكتشف البنية الواحدة للتفكير: يتحرك كل من ميشل عفلق وعصمت سيف الدولة وفتحي يكن وسيد قطب ضمن بنية واحدة للتفكير، لا فيما يخص البواعث والغايات والادوات فقط، وانما ايضا فيما يخص المفردات المستعملة لوصف "ادوات الثورة" : انها المرآة للمجتمع المفقود/ المنشود "، فكما يشترط عصمت سيف الدولة في "الطليعة" ان تُعبّر في ذاتها عن حقيقة الوجود القومي الواحد، وان لا تتلوث ابدا بالإقليمية وان تتعالى على الحدود، فإننا نجد كذلك سيد قطب وفتحي يكن يدعوان "الطليعة الايمانية" "ان تعيش الاسلام بكل وجودها" (يكن، 118)، وكما يدعو عصمت سيف الدولة الي وحدة القوى التقدمية في تنظيم واحد والعمل على الانقضاض على الدول القطرية، فان فتحي يكن يقول "ان الحركة الاسلامية احوج ما نكون الي تخطيط انقلابي تبلغ به مرحلة التنفيذ العلمي لأهدافها ومبادئها" (نفسه، 116)، وكما نجد عند عصمت سيف الدولة "الاستعلاء التقدمي"، حيث يقول –على سبيل المثال لا الحصر- "ان القوى التقدمية في الوطن العربي هي تلك التي تناضل من اجل اقامة دولة الوحدة الديمقراطية الاشتراكية، ولا يوجد خارجها أي تقمي واحد" (الاسلوب ، ص 36)، فإننا نجد ايضا سيد قطب يصف الطليعة الايمانية بكونها تتصف ب"الاستعلاء الايماني" ( معالم في الطريق، ص ص 178-187).
ايديولوجيا التغيير
يُلخّص علي حرب في "ثورات القوة الناعمة" النماذج الثلاثة التي تأسست عليها ايديولوجيا التغيير سواء عند القوميين او عند الاسلاميين او اليساريين، في النماذج التالية، والتي يسميها "النماذج الآفلة"
- النموذج النضالي الآفل : وهو نموذج حركات التحرر الوطني التي اخفقت في شعاراتها، سواء تعلق الامر بالوحدة والاشتراكية والتقدم، او بالتحرر والمقاومة والممانعة. لقد اعاد هذا النموذج الامور الي الوراء واطاح بمكتسبات عهود النهضة والاستنارة.
-النموذج النخبوي الفاشل، وهو نموذج اشتغل اصحابه بتلفيق النظريات وفبركة الاوهام، ولم ينتج هؤلاء غير عزلتهم وهشاشتهم وهامشيتهم على مسرح الاحداث.
-النموذج البروقراطي العاجز، وهو نموذج يستخدمه اصحابه في الادارة ذات الاساليب البالية، ولم ينتج غير هدر الوقت والطاقات والثروات.
-النموذج الجهادي القاتل، وهو نموذج الحركات الاسلامية العنيفة، التي لم تفعل غير انها تحولت الي بعبع تستعمله السلط الرسمية لإخافة الناس من كل عملية تغيير.
تقوم هذه النماذج على ميزتين اساسيتين، هما ، في الحقيقة، ناتجتان عن "ابستيمية" العصر الذي انتجت فيه: فهي غير تواصلية ولا تداولية، وهي غير افقية. تتمثل الميزة الاولى في الادعاء بان هناك حقيقة واحدة، وحل موضوعي واحد لمشاكل الواقع العربي، وبالتالي منهج واحد للتغيير.ولكل تيار "حقيقته" و"حله" و"منهجه". كما ان المشروع المجتمعي المنشود وطريقة التغيير الذي يتبناه كل فصيل لم يُنتَج عبر طريقة تداولية تتمثل في حوار مع الاخر المختلف ، وانما عبر مُدّونات حددت الاسس العقائدية الخاصة بكل فصيل، وهي غالبا ما كانت تُوزّعُ بشكل سري على "الشباب". اما كونها غير افقية، فذلك ناتج عن طبيعة الوضع السياسي الذي نتجت فيه والذي يتميز بالاستبداد الذي ضيّق على الحركات التي تهدف الي قلب الانظمة السائدة في المنطقة العربية، لذلك اقتضت السّريّة ان تكون لهذه الحركات بِنية هرمية صارمة.على اساس هذه الاعتبارات الثلاثة "تُفرزُ القوى": فمن لا ينتمي –مثلا- الي "التنظيم القومي" ويعمل على تحقيق دولة الوحدة الديمقراطية الاشتراكية، فهو غير تقدمي (هناك خلاف بين البعث والتيار القومي حول ترتيب الكلمات)، ومن لا يعمل على تحقيق المجتمع المسلم فهو لا يتصف بالاستعلاء الايماني.
ان الصراع الذي انفجر في بلدان "الربيع العربي" بين الاسلاميين والقوميين واليساريين بعد زوال الانظمة المستبدة والتي حكمت طيلة عقود، هو مواصلة لعملية" فرز القوى" التي كانت تحصل في مستوى النظرية. يدور هذا الصراع تارة حول الموقف من العلمانية او الديمقراطية، وتارة حول الدولة المدنية واخرى حول المقاومة او حول التقدمية.
تستغل الانظمة القديمة والمعادية للديمقراطية، وكذلك القوى الخارجية، هذا الصراع وتُغذّيه لمزيد إنهاك الشعوب ومعاقبتها على توقها للحرية والعدالة والديمقراطية. تتواطؤ القوى الايديولوجية المتصارعة اليوم-احيانا دون وعي- مع تلك الانظمة لإفشال المحاولة الثالثة للنهضة العربية. ربما من الاجحاف حصر امراض هذه القوى، وإجمال القول في اسباب صراعاتها وفشلها، فهي ظواهر اجتماعية وسياسية معقدة، نشات في فضاء مأزوم ومتخلف، وهي ردود افعال عن الاستعمار والاستيطان والاستبداد. مع الاعتراف بهذه الصعوبة الا اننا نستطيع ان نستعين بالتفكيك الذي قامت به "مدرسة التابع" للفشل الذي صاحب النخب التي حكمت دولة ما بعد الاستعمار: لقد ورثت هذه الحركات الايديولوجية والتّعبوية امراض النخب الحاكمة، التي ورثتها بدورها عن المُستعمِر. انها ايديولوجيا "التمثيل"
ايديولوجيا التمثيل
نقصد بالتمثيل الكلام نيابة عن اخر غائب وضعيف، فاقد لآليات الكلام عن نفسه، كما تعني تصوّر الاخر انطلاقا من الذات. انه "صورة" للآخر قِوامها هواجس الذات المُتمثِّلة ورغباتها ومصالحها.يفترض التمثيل ذاتا فاعلة ومُتمثِّلة، واخر عاجز على الفعل والكلام، وبالتالي عاجز عن تمثيل نفسه. نجد هذا كله في مفردة "الحماية": انها نِتاج مركزية ثقافية كما انها تُعلِن عن برنامج كامل: انها نِتاج لتمركز حول الذات التي تعتبر نفسها نموذجا ومعيارا للتحضر، وتعتبر "الاخر" متخلفا وغير متحضر. كما انها ترجمة لنظرة ايديولوجية التقدم تقوم على فكرة "الحالات الثلاث" عن اوغست كونت: اللاهوتية والميتافيزيقية والوضعية. الاخر الذي لايزال لاهوتيا وميتافيزيقيا هو في "حالة الطفولة" لذلك يجب الاخذ بيده و"حمايته"، وتعليمة وتثقيفه وتحضيره الي المرحلة الوضعية والعقلانية. ان لفظ الحماية اذن برنامج كامل من الهيمنة وتشريع الهيمنة، بل من يعترف بالحماية انما يعترف ب"رسالة الرجل الابيض" التحضيرية، وهكذا تصبح المطالبة بالاعتذار عقوقا عليه ان يُكفّر عنه بواجب العرفان.
هناك علاقة وثيقة بين ميتافيزيقا التقدم وايديولوجيا "التمثيل"، وذلك لان القول بوجود تاريخ كوني واحد لكل المجتمعات تمُرُّ فيه من المرحلة اللاهوتية الي الميتافيزيقية لتنتهي بالوضعية (العلمية)، يتنج حتما القول بوجود نخبة نيّرة (طليعة علمية) اكتشفت القوانين الوضعية للطبيعة والانسان، وعليها تعليم الشعوب لتدفعها الي التقدم. ولان الشعوب جاهلة، فعلى هذه الطليعة تمثيلها، اي التكلم باسمها وقيادتها السعادة والنظام والتقدم، وهي مصطلحات يكررها "اوغست كونت " كثيرا. انه ميلاد الثنائي "التقدم/ التحلف" وميلاد المركزية الغربية، وميلاد "المتوحش/ المتمدن": الايديولوجيا التي شكلت بارود الاستعمار و"الحماية"، ولنلاحظ ان احد بنود الحماية يتضمن "التكلم باسم الشعب التونسي(تمثيله) لدى الدوائر الخارجية". ولم يسلم "هيجل"، بطمّ طميمه، من هذه النظرة: " ان الهنود عديمي الذكاء على نحو واضح، وانهم اطفال بعيدون عن الاستنارة" (العقل في التاريخ). ولم يسلم ماركس من الوقوع في حِبال اوغست كونت: فعلى صعيد فلسفته للتاريخ لم يكن الا "كونتيّا": المشاعية البدائية ، ثم الاقطاع، ثم الرأسمالية، واخيرا الخلاص والسعادة في الشيوعية.
ما يعنينا في مشكل "التمثيل" هو انه ينهض على فكرة التقدم، وينتج فكرة الطليعة، سواء فهمناها على انها طليعة العالم، او طليعة المجتمع: دائما هناك "انا" عارفة ومتقدمة في مواجهة "اخر" جاهل ومتخلف، وعليها ان تقوده وتحكمه. علينا ان نظيف امرا مهما: هذه النظرة هي ما انتج فكرة المستبد العادل، التي نظّر لها "سان سيمون" واغوت محمد عبده ايضا. وعلينا ايضا ان نقول: ان فكرة "التمثيل" والطليعة والمستبد العادل هو المشترك – الذي يُمزّق، وهذه مفارقة- اصحاب الايديولوجيات العربية المعاصرة. انهم لم يهضموا بعد ثورات لم يقوموا بها ولم يقودونها، وجاءت على غير ما جاء في "الكتاب"، وقام بها "انسان الجُمُوع" الذي ارادوا قيادته. لقد جرفتهم روح العصر الي مرحلة لم يتهيّئوا لها ابدا، تجد الواحد منهم ممزقا بين سياق ديمقراطي وروح "سانسيمونية".