كشف الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل، نور الدين الطبوبي، في مقابلة تلفزيونية معه، عن رغبة الرئيس قيس سعيد، اعتماد دستور 1959 الذي صدر بعيْد استقلال البلاد، وبمقتضاه تم إلغاء الملكية، واعتماد النظام الجمهوري، وإقرار النظام الرئاسي. وتم العمل به خلال فترتي حكم الرئيسين، الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي، والتي قاربت نصف قرن. وكان هذا الدستور قد تعرّض إلى عدّة تعديلات، بمقتضاها وقع إقرار رئاسة بورقيبة مدى الحياة (ديسمبر/كانون الأول 1974). وعمد بن علي إلى تعديله باستمرار، لجعل الولايات الرئاسية غير محدّدة، حتى تمت إزاحته في أثناء ثورة 2011.
يذكر نواب عديدون في المجلس التأسيسي، بعد الثورة، أنّ سعيّد تمت استشارته في أثناء صياغة الدستور الجديد (دستور 2014) باعتباره خبيراً في القانون الدستوري (لم ينشر دراسة علمية واحدة، وظلّ كامل مدة تدريسه حتى التقاعد في أدنى الرتب الجامعية، ولم تُعرف له كتابات في الاختصاص). وقد عبر الرجل آنذاك عن مناهضته دستور الثورة هذا، جملة وتفصيلا، بل صرح يوم إقراره، وبشكل مسيء، أن تونس قد عرفت يوما أسود. لم يفصح آنذاك عن سبب تحفظاته، وظلت مجرّد إشارات غامضة ومبهمة، تفيد بأن الدستور الجديد خلا من الإشارة إلى الديمقراطية التشاركية، وظل متبنّيا مركزية مفرطة.
لا يُعرف للرجل نضالات في أثناء فترة الاستبداد، أو أي مساهمة في الحراك الديمقراطي، بل وحتى النقابي الذي شهدته الجامعة والساحة الديمقراطية والحقوقية، بل تذكر مصادر ووثائق صحافية أنه كان مقرّبا من الأوساط الجامعية المنتمية إلى حزب التجمع الدستوري الديمقراطي (الحاكم المنحل لاحقا)، من خلال تقديم محاضراتٍ في فعاليات ينظمها.
في غفلةٍ من الجميع، صعد قيس سعيد إلى دفة الرئاسة، منتخب ديمقراطيا. ومع ذلك، لا يزال لغزاً يثير أسئلة كثيرة بشأن قدرته "العجيبة" في إطاحة منافسيه، وقد بلغوا ما يناهز الثلاثين مرشّحا، في الدور الأول، نصفهم قاوموا الاستبداد وسجنوا سنوات عديدة في عهدي بورقيبة وبن علي (حمّه الهمامي، حمادي الجبالي، عبد الفتاح مورو، نجيب الشابي، محمد عبو...). وساهم البقية، من مواقع متقدّمة، في إدارة فترة الانتقال الديمقراطي (يوسف الشاهد، مهدي جمعة، إلياس الفخفاخ، عبد الكريم الزبيدي). من خارج هذه البيوغرافيات الملتصقة بالثورة أو الانتقال الديمقراطي، يفد رئيسٌ غريب، ليس له أيّ رصيد رمزي يضمّه للثورة، أو ينسبه إلى بناء تجربة الانتقال الديمقراطي. عُملته الانتخابية الوحيدة نظافة اليد واللغة العربية الفصحى الرنانة على شاكلة لغات "روبوتات أجهزة المراقبة الإلكترونية".
علينا أن نأخذ مأخذ الجد ما للرئيس من قناعاتٍ راسخةٍ، لا يعيشها مجرّد مواقف وعواطف، بل تحدّياً وجودياً له. إنّه ابن الماضي الذي لم يعشه ثائراً، أو حتى محتجّاً، بل كان صامتاً وشاهد زور على كلّ الانتهاكات التي عرفتها تونس، فما الذي يجعل الرئيس الحالي يحنّ إلى دستور 1959، الذي تجرّأ عليه المستبدّون، وعبثوا به، فضلاً عن التنكّر له قولاً وممارسة؟ إنّه يمنح للرئيس سلطاتٍ واسعة تمكّنه من حكم البلاد وفق إرادته المطلقة.
ولذلك حظي بجاذبية خاصة لديه، غير أنّ دعوة الرئيس إلى العودة إلى العمل به لا تبرَّر بتلك السلطات الواسعة التي يمنحها له، فالرجل لا يبحث بذلك عن مجرّد تجميع صلاحيات حرمها منه دستور 2014، أو حرص على نظام سياسي مستقر، بل إنّه بهذا الدستور يطمر سرديةً لم يشارك فيها، ولم يكن فاعلاً فيها، تزعجه وتذكّره بأنّه كان غائباً. إنّه، وهو يختار دستور 1959، يهاجر، أو بالأحرى يفرّ، إلى زمن متخيل.
إنّه بذلك يلوذ (مفردة محبّذة لديه) إلى الحقبة التي تليق به، وتمنحه شرعية الوجود السياسي، إذ لم يترك أثراً له في معارك الحريات، ولو مجرد إمضاء عريضة استنكار، ينحاز فيها إلى قضايا نبيلة وطنياً أو عالمياً.
يخرج قيس سعيد التونسيين تماماً من زمن الثورة (ومن زمن الانتقال الديمقراطي أيضاً) التي لم يساهم فيها، وكان دائماً يتحرّش بها ويعتبرها معرّة. هذا النزوح إلى زمن ذلك الدستور ليس مجرّد لجوء فارّ إلى زمن متخيل، فيتحصّن في قلعة مهجورة، لا أحد يحرُسها أو يدّعي أنّه مؤتمن على صونها. لقد رحل معظم رواد ذلك الجيل ممن حضروا المجلس القومي التأسيسي الذين صاغوا دستور 1959. ومع ذلك، أعلنت رئيسة الحزب الدستوري الحر، والتي تتوهم نفسها حارسة ذلك الزمن السعيد، ذودها عن محميتها تلك، واستعدادها لإجلاء سعيد منها.
كان هذا الخيار مطروحاً بعد ساعات قليلة من فرار بن علي في يناير/ كانون الثاني 2011، بل دافع عنه رموز في النضال الديمقراطي، فقد دعا الزعيم التاريخي للمعارضة الديمقراطية، نجيب الشابي، إلى الاكتفاء بإجراء تعديلات على دستور 1959، والمضي في تشكيل حكومة وحدة وطنية، ولم يكن متحمّساً للذهاب إلى أطروحة المجلس التأسيسي ودستور جديد، غير أنّ موجة الثورة حسمت الأمر.
يواجه قيس سعيد، بعدما انكشف موقفه، موجة حادّة ممن درّسوه القانون الدستوري. وهناك من اعتبر ما يطلبه انقلاباً ناعماً على دستورٍ أقسم أنّه حاميه، وما كان ليكون في منصبه لولا هذا الدستور… لا أعتقد أنّ الأمر مجرد انقلابوفوبيا، كما كتب مرة النائب سالم لبيض في "العربي الجديد"، فللانقلاب وجوه عدة، منها وجوه ناظرة.