الأمل في الأقلية، مثل كل مرة

اليوم إلياس الغربي استدعى سناء بن عاشور في ميدي شو. الحصة كانت راقية وحرة وسناء بن عاشور قالت كل شي. هي لخصت وضعية ممكن نرجعلها لاحقا: الخوف من الجمهور المنفعل والمتحمس اكثر من قيس سعيد نفسو. أعتقد أن الشجاعة هو في التمسك بالرأي رغم طابعه الأقلي، وهذا هو دور النخب الحقيقي.

الناس تشتم في النخب خاطر في بالها النخب هوما نواب سراق أو وزراء سراق او مديرين سراق. لا، النخبة هي هذي إلي ما يقلقهاش أنها تكون أقلية، إلي في كل مرحلة تاريخية تنبه الناس، والناس تهاجمها، ومن بعد هوما إلي يطلعوا صحاح، والناس تدخل في الحيط وما تتفكر الكلام هذاكة إلا بعدما يفوت الفوت.

تاريخيا، عمرك ما تنجم تواجه النخب وتخرج منتصر على المدى المتوسط، قبل المدى البعيد. هذا أمر غير ممكن، وما صار حتى شيء يقول العكس. الجمهور ينجم يقوم في لحظة وقت تكبر التناقضات، مرة في العشرة سنين، أو العشرين أو الثلاثين، لكن بين زوز انتفاضات الميدان يكون دائما للنخب.

هنا قيس سعيد يبدو مطمئنا: النخب هذي أقلية ومعزولة، والشارع في صفه، لكن الصدام قادم لامحالة. هو رابح في وضعية اليوم لأنو يعتقد أن هذا يخليه يبدو محترما لحرية التعبير. وقتاش يكون الصدام قد آن أوانه؟ وقت يفيقو الناس مالتخميرة، ويبداو يتساءلو، ويبداو يجاوبو بالمضامين إلي صاغتها النخب الأقلية هذيكة.

أنك تكون أقلي اليوم، في وضعية الهيجان الجماعي المدروس والمخطط له، فهذا شرف. هذا دليل على أنك تستخدم في حاجة رزقك بيها ربي، وهي العقل. الإتباع ساهل. لكن خلي نقول حاجة: ثماش راعي يهز قطيع الغنم متاعو نحو السراب؟ لا، خاطر القطيع ينقاد للراعي لأنه متأكد أنه سيأخذه حيث الماء والمرعى. أصلا يبدا متعود وحدو على الطريق. ما يحصلش.

هنا إحنا في وضعية رئيس رافض باش يقول للناس وين هاززهم، ورافض أصلا أن واحد يطرح السؤال هذا. بعد حوالي شهر من الفوعة هذي، وبخلاف إثارة انفعالات الناس والبروبغندا والتنرفيز والجمل الرنانة، الناس تشوف في المستقبل أوضح؟ ما يجاوبني حد بأنو قبل 25 جويلية كان سيء. كان أكثر من سيء. متفاهمين. وإذا ثمة مشروعية ما للي عملو قيس سعيد، فيلزم البحث عن أسبابها وعواملها في التعاسة والإجرام إلي قادوا البلاد قبل ذلك التاريخ.

ممكن الناس اليوم مازالت فرحانة أنها تخلصت من كابوس، لكن وقيت باش تفيق من توة، خاطر ماثمة حتى وعد إلاهي أو بشري بأن الكابوس ما يتعاودش.

عرفتو دور النخب ماهو بالضبط؟ هي هاك الصوت إلي يقلك: آقف وفكر، واعمل رايك، راك إنسان ربي عطاه عقل، ويفترض يكون مسؤول !

لماذا يغضب قيس سعيد كلما طرح سؤال خارطة الطريق؟

ردة فعل الرئيس المنفعلة والمتواترة في انفعالها من سؤال خارطة الطريق، أمر مثير للحيرة بالفعل. لكنها من نوع الحيرة التي سرعان ما تزول كلما وضعت الأمور في سياقها وأمسكت بعناصر المشكل: ليس لقيس سعيد أي خارطة طريق !

لا شيء يدل بالفعل على أن الرئيس يملك هذه الخارطة. لا مؤشر جدي على ذلك مهما أبدى الرئيس من مؤشرات: ليس هناك أي شيء يمكن تسميته بخارطة طريق.

أصلا، خارطة الطريق، كأي خارطة تجدها في كتب الجغرافيا كما قال الرئيس، لا قيمة لها إذا لم تكن واضحة، لأنها إن لم تكن كذلك فلا تصلح لا لتبين الطريق ولا للسير فيه، ولا للوصول إلى منتهاه. هل يمكن تسمية ما قام به الرئيس طيلة الشهر المنقضي "سياسة واضحة"؟ لا أجد في ذلك أصلا سياسة، حتى تكون واضحة. الأمر لا زال متعلقا بعملية تثبيت المواقع: تسميات هنا وهناك، خطبة رنانة كل يومين، زيارة مفاجئة هنا وهناك، وإعلان وضع شخص او إثنين تحت الإقامة الجبرية. كلها أعمال لا تهدف سوى لتثبيت الموقع، ولترك الشارع في حالة تحفز وهيجان.

الرئيس في مأزق، مثلما أحسن باستمرار وضع نفسه: دخل الخامس والعشرين جويلية بلا خطة، وبلا أفق. رأى الثمرة آيلة للسقوط فانقض عليها. هذا لا يتناقض مع إعتبار الناس له منقذا، لأن الوضع كان في أقصى درجات التعفن، وكانت الوضعية مغلقة تماما. الرئيس كسر الحلقة المفرغة. هذه مسألة سياقات: السياق كان سياق قيس سعيد. نقطة إلى السطر.

لكن المأزق بدأ في التوضح بعد ذلك مباشرة: ربما كان الرئيس يرغب فعلا في تغيير كامل المنظومة الدستورية والسياسية. لا مشكلة في الرغبة. السؤال هو: خارج سياق "الإنقاذ"، من كلفه بهذه المهمة؟ الدستور، أم الشعب، أم الشارع أم نداء خفيّ من أعماق الغيب؟ في نظر الرئيس هو خليط من هذا وذاك. في كل الحالات، هو يفكر عوضا عنا ويقرر عوضا عنا. مالذي يؤهله لذلك: السياق. نفس السياق الذي جعله يبدو كمنقذ. قيس سعيد مدفوع بما يعتمل في نفسه وعقله دفعا: هو يعتقد أن له تكليفا ربّانيّا وأن ما يحفّه هو العناية الإلهية. هذا أخطر ما في الأمر، وهذا ليس بالضرورة مأزقه هو، بل مأزقنا نحن.

لنعد إلى مأزق الرئيس: إذا مضى في تغيير كل شيء، سيبدأ في الإصطدام بكل شيء. هذا أمر حتمي. هناك الداخل بتعقيداته، لكن هناك الخارج أيضا. دستور 2014 ليس مجرد نص يمكن الإطاحة به بضغطة زر. الأمر أشد تعقيدا بكثير مما يبدو: هناك توافقات هشة صيغت على أساسها فصول كثيرة، توافقات ثقافية وفكرية، وليس بالضرورة سياسية مثلما يحاول أن يقنعنا بذلك. العصف بهذه التوازنات واقتراح توازنات جديدة من بنات أفكاره، ليس بالأمر البسيط الذي يمكن هضمه بسهولة، ومن الجميع.

ما يُزعج في قيس سعيد هو اعتقاده، واعتقاد أنصاره، أن التحكم في القرار السياسي يجعل كل شيء ممكنا. هذا خطأ فادح تُدفع أثمانه بالحاضر. تدمير تلك التوازنات الهشة لفائدة رؤية أصولية شديدة المحافظة وإن كان سيجلب إلى صفه كثيرا من المحافظين، فإنه سيثير ضده النخب، وهذه النخب ليست تفصيلا. هي لم تتكون خلال العشر سنوات الأخيرة. هذه النخب كانت هنا منذ قرون، كانت هنا وستبقى هنا. في كل الحالات، ومهما كانت التهجمات عليها وإثارة الشارع ضدها، فإن قمعها، او تغييرها، لا يمكن ان يتم بجرة قلم، او بمجرد إبداء الرغبة. هذه حرب غير مضمونة النتيجة، في الحد الأدنى.

عدم مضي الرئيس في توضيح ما يريد، والإختباء وراء "الإرادة الشعبية"، يدل على شعوره بالمأزق. أصلا هذا النوع من البروبغندا ليس من إبداع قيس سعيد. من له الوقت للعودة لكتب التاريخ ولو قليلا، يفهم أن الأمر لا يتجاوز البروبغندا.

من يقدس الشعب يفترض أن يحترمه، وأدنى درجات إحترام الشعب ألا يبقى في هذا الغموض. قيس سعيد يتحدث عن الشعب، لكنه يقصد الشارع، ولكنه أيضا لا يحترم حتى هذا الشارع: هو يعتبره مجرد وقود في معركة السيطرة على مفاصل الدولة، ولا يفصح له حتى عما يريده بوضوح. أكثر من ذلك: هو يسخر منه عندما يسأله: أين خارطة الطريق؟!

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات