وقع الانقلاب في أزمة.. هو الآن لا يبحث عن طريق للعودة.. ما زال! بل يبحث عن طريق للتقدّم ففشل.. فتوقّف.. ولا حلّ أمامه غير ارتكاب حماقات جديدة.. كانت البداية سهلة.. شبه استنساخ لما وقع في مصر. الاستعصاء.. التآمر.. الشيطنة.. تحريك الإعلام والفنّانين والنّخب ضدّ الشرعيّة.. ثمّ التصعيد من التشويه إلى تعطيل دواليب الدولة ومن ثمّ تعطيب الاقتصاد لتنتهي العمليّة بتغييب المواد الأساسيّة! في مصر تمّ التركيز على السولار"الوقود" وفي تونس على بعض مواد التموين، قبل أسابيع من 30 يونيو بدأت شركات التوزيع تتوقّف عن نقل السولار إلى محطّات البنزين، ثمّ في 27 جوان طالبوا محطّات البنزين التي ما زالت تشتغل بالتوقّف والادعاء بأنّ الوقود انتهى مقابل الحصول على ضعف ما كانت تكسبه. ثمّ زوّدوا بعض المحطّات القليلة التي اختاروها بطرقة خبيثة، بحيث إذا تجمّعت أمامها السيّارات في صفّ طويل تختنق القاهرة ويتعطّل كلّ شيء، وفعلا هذا الذي حدث وجعل العاصمة تعيش على بركان.. ثمّ جاء التحشيد للتفويض، 30 يونيو في مصر و25 في تونس، قبله تأسّست الصفحات والحسابات الوهميّة وتمّ تأجير شركات للغرض ونجحت العمليّة.
*بداية الأزمة
أيْ نعم ستدفع الإمارات والسعوديّة وبأقدار فرنسا لانقلاب تونس لكنّهم يجب أن يطمئنوا أنّ المساعادت الضخمة لن تسقط في يد حكومة شرعيّة بعد سقوط الانقلاب! تلك الأزمة الأولى، الطريق إلى تثبيت الانقلاب دون رجعة، مشكلة عويصة واجهت المنفّذ على الأرض كما واجهت المموّل.
*عمق الأزمة
تمّ استنساخ السيناريو المصري على أحسن وجه إلى حدود الانقلاب، ثمّ اصطدم الجميع بواقع جغرافيّ مغاير، كانت لمصر حدود مع ليبيا، وكان حفتر أواخر 2013 بالتنسيق مع المخابرات المصريّة والإمارات قد شارف على تأسيس ميليشياته التي أطلق عليها الجيش الوطني، وبعد استكمالها أعلن عن حلّ البرلمان في فيفري 2014، هكذا تكون حدود مصر من جهة ليبيا قد تمّ تأمينها، أمّا الحدود من جهة السودان فقد كانت سالكة من عسكر البشير إلى عسكر البرهان، فيما يلقى الانقلاب الدعم الكامل من الكيان المحتل، ولا خوف من غزّة التي تعاني.. إذا كلّ الجوار يرحّب بالانقلاب، من غير غزّة المعزولة عن العالم.
أمّا انقلاب 25 جوان فقد اصطدم بخارطة معقّدة، من الشرق طرابلس العدو اللدود لبن زايد وبن سلمان، ومن الغرب الجزائر التي ترفض أيّ وصاية إماراتيّة سعوديّة فرنسيّة على تونس، وبالتالي تعمل عبر وزير خارجيتها على تطمين سعيّد والوقوف معه، لكن تشترط عدم دخول الإمارات والسعوديّة وفرنسا على الخطّ، وسعيّد يدرك أنّ الأزمة الاقتصاديّة المستفحلة لن تحلّها "وقتيّا" غير أموال الإمارات والسعوديّة.. ثمّ إنّ سدنة الانقلاب التونسي يحتاجون إلى عدو خارجي، حاولوا مع تركيا لكنّها بعيدة، اتجهت الأنظار نحو ليبيا وشرعوا في خطّة تقضي بتحويل طرابلس إلى غزّة، ثمّ اتهام أطراف تونسيّة بالتخابر مع طرابلس في استنساخ لتخابر حــــمـــاس المزعوم مع غزّة!
تلك خطّة فشلت وكادت في ظرف 3 أيّام أن تعصف بالانقلاب الهشّ لتنتهي بعمليّة صلح سريعة قادها وزير خارجيّة الانقلاب عثمان الجارندي وقبلها الجانب الليبي لحسابات كثيرة.. هكذا فشلت خطّة غزّونة طرابلس "تحويلها إلى غزّة".. ثمّ إنّ الأطراف الدوليّة على خلاف حركة الإخوان في مصر التي ما زال المجتمع الدولي يرتاب في تجربتها وما زال بصدد مراقبتها حين انقلبوا عليها، على خلاف ذلك، تمكّنت النّهضة طوال عقد من تكسير الرؤية النمطيّة عن الإسلاميّين ولم تعد تصلح كشمّاعة، إضافة إلى عامل الاحتلال، فانقلاب مصر سايرته القوى الكبرى التي تخشى على الكيان من دولة مجاورة تقودها حركة عقديّة كبيرة. أمّا انقلاب تونس فلا شيء من هذا القبيل، فلا المجتمع الدولي لديه مشاكل مع الديمقراطيّة التونسيّة ولا طرابلس والجزائر تذمّرا، بل بكّرت حركة النّهضة الحزب الأوّل في البلاد ببناء علاقات متميّزة مع الجزائر وكذا مع طرابلس.
كلّ هذه العوامل جعلت الإناء يضيق بانقلاب 25 جويلية، فدول الجوار غير مستعدّة لمجاورة بن زايد وبن سلمان، والمجتمع الدولي لا يرى ذلك الثمن المغري الذي يسيل له اللعاب ليوافق على ذبح الديمقراطيّة التونسيّة.
والأكيد أنّ مرونة حركة النّهضة وتنازلاتها الطويلة على مدار عقدين، وعدم انخراطها في معارك الأدلجة، وعلاقاتها المتميّزة مع الجزائر، صعّبت على الانقلاب تثبيت وتقنين نفسه، كما صعّبت تسويقه.. يمكن القول أنّ النّهضة سبقت الانقلاب حين قدّمت نفسها للمجتمع الدولي على مدار سنوات بشكل لا يثير الريبة، لذلك اختنق الانقلاب حين لم يجب عن سؤال المنتظم الدولي: ماذا سنربح حين نضحي بديمقراطيّة تونس؟! ذلك هو السؤال الذي عطّل الانقلاب، أمّا الذي كبّله فالجزائر وطرابلس.. والذي سيقضي عليه هو الوضع الداخلي وتلك الوعود المبتورة والبروباغندا الواهية التي ستبدأ في التآكل تدريجيّا... وإذا كانت الثورة تأكل أبناءها، فإنّ الانقلاب يأكل نفسه.