لعلّ اكثر ما يدفع المرء الي التفكير في فترة ما بعد الانقلاب ليس فقط تماوُت بعض المثقفين بشكل مُهين وانما ظاهرة اكثر دهشة وسفاهة: كيف يكون المرء- وفي كَرّة واحدة- تقدميا تنويريا وحداثيا وفي نفس الوقت مساندا للانقلابات؟ ما هو الانقلاب وما هو النموذج السياسي الذي يتأسس عليه وما منزلة "المحكوم" في عوالم الانقلابات؟ وما علاقة الدولة بالتاريخ حين نفهم السياسة بوصفها رَعيا؟
في محاضرة شهيرة يُعنونها ب" المفرد والجمع، نحو نقد العقل السياسي"، يُطلق فوكو اسم "الرّعَوية" على شكل السلطة المُمركزة في الفرد. يعرِضُ فوكو لأصل هذا الشكل الرعوي للسلطة ويُأصّلها في تمثّل الاله-ومن ثمة الملك- بوصفه راع يتبعه قطيع من الغنم. لقد كان هذا التمثل للملك بوصفه ربّا راعيا هو نموذج الحكم في مصر القديمة وفي اشور ويهودا. كان ملك بابل يُلقّبُ ب"راعي البشر"، وكان الفرعون يتلقّى في يوم تتويجه عصا في حفل طقوسي وشعائري مهيب. تقول احد الابتهالات الي الاله "رع" "ايها الاله رع، يامن تبقى يقظان عندما ينام جميع البشر،انت الذي تأتي بكل ما هو خير لقطيعك". ويقول داود في التوراة مخاطبا يهوه "تقود شعبك كالقطيع بيد موسى وهارون".
ما يعنينا في هذا النموذج هو اساسه اللاهوتي وما يترتب عنه من لامساواة بين البشر، وفلسفة التاريخ التي يؤدي لها والتي عبّر عنها ابن خلدون ب"اعمار الدول". يترتّب عن فهم السياسة بوصفها رعيا للقطيع البشري تراتبية صارمة: فكما يختلف الاله في الطبيعة عن عباده، يختلف الزعيم الراعي عن قطيعه، وكما يكون الاله حاكما اوحدا للكون، يكون الزعيم الراعي حاكما فردا لقطيعه، وكما يُسيّر الاله بحكمته ورادته المطلقة، يحكم الزعيم الراعي، وكما يُنقذ الاله عباده الصالحين من المهالك، يقود الزعيم "الوطنيين الصادقين" الي الخلاص. علينا ان نلاحظ ان هذا النموذج للسياسة وثيق الصّلة بالكوسمولوجيا القديمة- ما قبل نيوتن- اي ما قبل الحداثة في معناها الفيزيائي، ولقد قال الغزالي ذات مرة بان استمرار الوجود رهين تدخّل الالهي مُستمِر، لولاه لانهار الكون. هناك معجزة في كل لحظة تضمن استمرار الكون.اما في عالم السياسة فان وجود القطيع رهن بوجود الزعيم المنقذ. يقول فوكو "انه بمجرد ان يغيب الراعي حتى يتشتت القطيع"، وانه لما كان الراعي كائنا حيّا فلابد ان يصيبه الكون والفساد، ولما كانت حياة قطيعه رهينة بوجوده فانه لابد ان نتوقع انهيارا محتوما "للدولة" وتشتتا للقطيع.
لقد كان ابن خلدون يفكر داخل هذه الكوسمولوجيا وداخل النموذج الرعوي للحكم، لأنه تصور اعمار الدولة على شاكلة "اعمار" الفرد: الميلاد والعنفوان والشيخوخة. علينا ان نُؤكّد على امر مُهم هو الاختلاف الجوهري بين ابن خلدون والفكر السلطاني في عصره كما نجده عند الطرطوشي او ابن رضوان او الماوردي: لقد اعتقد هؤلاء ان اعمار الدول رهينة بأخلاق السلاطين، لذلك امضوا حياتهم في "نصح" السلاطين لتجنّب "فساد الدول": " الخصال التي فيها فساد الدول" (ابن رضوان)، "الخصال التي زعم الملوك انها ازالت دولتهم" (الطرطوشي)، "نصيحة الملوك" (الماوردي).
اما ابن خلدون فقد اسس "المُلك" على باراديغم الطبيعة، لذلك كان اقرب للعلم واكثر تشاؤما: لقد سخر من نصح الملوك واعتبر الامر عبثيا، لان عمر الدول يخضع لصيرورة طبيعية يكون فيها الهرم والموت امرا لا مرد له. طالما ان مصير الدولة رهين بالفرد الراعي، الذي اوصلته العصبية-وهي انفعال طبيعي ايضا- فان الفناء امر محتوم. هناك اذا فلسفة دائرية للتاريخ: الميلاد والقوة والفناء. ان "الدول" التي تحتاج الزعيم الراعي تكون حتما نَهبا للزمن، ولقد عبر هيجل بشكل سوداوي على هذه الفلسفة الساذجة للتاريخ وفلسفة التاريخ الحديثة " من لم يقف امام انقاض بابل او تدمر او روما او قرطاج من دون ان يدفعه التأمل في سرعة زوال الامبراطوريات والبشر؟(اما العقل الحديث) فقد اسس مؤسسة اخلاقية واعية اي الدولة وحماها من الزوال وذلك بخلقه لأوامر وقوانين رسمية، اي ضوابط سارية عامة وشاملة، لقد مأسس الدولة" (التاريخ العالمي). انها الحداثة السياسية التي كانت متساوقة مع الحداثة الفيزيائية: كما وقع اكتشاف قوانين الميكانيكا العامة مع غاليلي ونيوتن، ولم تعد حركة الكون رهنا بتدخل الاهي مستمر، لقد وقع اعفاء الاله من تحريك دفّة الكون من طرف ديكارت ونيوتن، وهو امر اغضب اكثر عباقرة العصر واكثرهم لاهوتية في آن "ديكارت لا يصلح لشئ، كما انه غير دقيق، انه يريد تجاوز الله"-باسكال-. لم تعد اية تراتبية في الكون الحديث، كلها اجسام مادية، كما ظهر مفهوم القانون الكوني: كل الاجسام تخضع لنفس القوانين. كيف تُرجم هذا في عالم السياسة؟
تُرجِم في موت "المشروعية" وميلاد الشرعية القانونية. تتأسس "المشروعية" دوما على ضرب من ضروب اللاهوت او على القوة: اما الاختيار الالهي ،او حق الفتح او ادعاء الانقاذ. اما الشرعية فهي مؤسسة على القانون، اي ما هو قابل للقياس والاختبار والاحصاء، اي اصوات الناخبين. لقد مات القطيع وولد المواطنون بوصفهم ذواتا حرة ومتساوية ومؤسسة للنظام السياسي بموجب العقد الاجتماعي. مات الزعيم الراعي وظهر الرئيس الموظف المحدود بالقانون والمحاصر بالمؤسسات. يعلم مؤسسو الفكر السياسي الحديث ان سبب خراب القرون الاولى هي "طبيعة الحاكم"، اي اهواءه ورغباته ككائن حي، لذلك وقعت محاصرته بالمؤسسات واخضاعه للقانون. ان ورطة هوبس الكبرى حسب روسو هو انه اخرج الافراد من حالة الطبيعة والاهواء والصراع بفضل العقد غير انه ابقى "التّنّنين" مطلق الارادة اي في حالة الطبيعة وخاضعا للأهواء. فاذا كان "التنين" ضامنا لأمن "الرعيا" فمن يضمن لهؤلاء شر التنين الخارج عن القانون؟ لاشيء غير النّصح السلطاني والنوايا الطيبة.ان التنين يُخضِعُ الرعايا للقوانين التي يصدها هو ولكنه لا يخضع لها.
يُعرّفُ كانط "الانوار" بوصفها خروج الافراد من حالة القصور والوصاية التي وضعوا فيها انفسهم، وامتلاكهم للجرأة والشجاعة في استعمال عقولهم. ان استبعاد الوَصّيّ في مجال المعرفة موازي لاستبعاد الزعيم الراعي والمنقذ في مجال السياسة. ما يُسببه "الشيخ" للمريد في مجال المعرفة هو منعه من تدريب عقله عن التفكير، وما يُسببه الزعيم الراعي هو ابقاء الافراد في حالة القصور: انه يكسِرُ في كل ظهور له مسار التراكم والتّحسّن داخل المؤسسات فيجعلها اكثر هشاشة واكثر عرضة للتّلف. فماذا بعد الزعيم الراعي؟
سيحتاج القطيع راعيا اخر، وبين هذا وذاك انهيار للدولة وقيام لأخرى. اننا داخل الكوسمولوجيا القديمة. ان احد شروط دخول الشعوب مرحلة الحداثة السياسية هي مواجهتها لعواصف التاريخ ومرورها بتجارب الوعي المؤلمة بدون حاجة لوصي او راع. ان الادعياء الذين يُشرّعون "للمستبد المستنير" وللزعيم الراعي، لا يهينون شعوبهم فقط حين يحولونها الي قطيع لا يعرف مصلحته، ولا يخربون فقط التراكم التاريخي الضروري لبناء المؤسسات، وانما يمثّلون ايضا اكثر القوى رجعية واكثرها تدميرا للدولة.
ولا يغرّنكم ما يدعيه البعض من "ثقافة" و"حداثة"، فقد تورّط هيدغر في الانخراط –بشكل ما- في النازية، وربما ظن بان "الفوهرر" هو "حارس الكينونة"، وحين استفاق بعد الحرب على هول الفاجعة قال "وحده اله يمكن ان ينقذنا"، وهنا نلمس الاصل الغيبي لفكرة الزعيم الراعي.ولا ننسى ان هيدغر كان عدوا صريحا للحداثة.ان كان في الانقلاب فضيلة فهي كشف الاقنعة وكشف رجعية وظلامية مسانديه.