كأني أسمع صوت الورثة يصطرعون على ميراث ثقيل، فقد توفي صاحب الملك وهم من بعده يختصمون؛ كل يريد الخير لنفسه باستباق البقية. سقط قيس سعيد في نفوس معارضيه، حتى أنهم غير مستعجلين على دفنه. تجري الآن معركة حامية بين الباقين بعد قيس على ما سيبقي قيس في البلد قابلا للقسمة. متى مات؟ لقد ولد ميتا، وما من أحد آمن بما قال أو قد يقول، فلغوه "فأشوش"، والقوم من بعده موقنون بوجود مغنم حقيق بالصراع.
توجد معضلة تربك صراع الورثة؛ أحد الورثة صنف ابنا غير شرعي للدولة، لكن وجوده المادي في الشارع وفي العقول يحقق له قسطا من الميراث وافرا. فكيف تتم قسمة بحرمانه وهو عنصر ثابت وملك حق الإرث دون بطاقة نسب من بقية الورثة؟ إنه حزب النهضة باق ويتمدد في الأزمة حتى أنه يستطيع ملء الشارع بالرجال والنساء، وهو لقوته الثابتة يطاول مطمئنا إلى أن قسطه في الإرث غير قابل للغمط.
سبب التردد في الحسم هو كيفية تقاسم البلد ومنافعه (ومواقع النفوذ فيه) بعد قيس سعيد دون فسح مكان للنهضة بين قوى المستقبل. هذا جوهر المعركة الدائرة الآن في تونس، أما قيس سعيد فقد سقط من الغربال.. سأحاول تبسيط الفكرة هنا.
الورثة يختصمون
ظهرت زعيمة الفاشية في الشارع وقالت عن الرئيس ما لم يقله فيه ألد خصومه، فهو الرجل الصفر في العقل وفي إنتاج الأفكار وفي تدبير أمر الدولة. في تونس هناك قناعة ثابتة بأن الفاشية والرئيس يقتسمان الأدوار، فهي التي رذلت البرلمان وهو الذي حماها في مشروعها ثم اتخذ عملها ذريعة ليغلق البرلمان (كانت آخر شكواه إلى وزير الخارجية الأمريكية بأن البرلمان سال فيه الدم). قادت المظاهرات تحت حمايته بالحرس الرئاسي، وسهّل لها عقد الاجتماعات الشعبية تحت حماية الأمن، حتى أنه لم يحرمها استعمال وحدة صوتية كافية لإسماع صوتها من القصبة حيث حكومته، بينما منع مظاهرة يوم 14 تشرين الثاني/ نوفمبر من استعمال كل آلة متاحة لإسماع الآلاف صوت قيادتهم.
لكن خطاب الفاشية نقض المعاهدة بما جعلنا نستنتج بسهولة أن العقد بينهما قد فسخ أو هو في طريق الفسخ، والمعركة الآن على جمهور قيس عندما يختفي قيس (النقاش لم يعد في احتمال اختفائه فالفاشية تتصرف على أنه انتهى). لا بد لجمهوره من مستنقع يصب فيه، والفاشية تحسب هذا الجمهور في صفها بعده، فهو جمهور متنمر معاد لبقية الطيف السياسي وخاصة معاد للنهضة؛ الرقم الصعب الذي لم يروضه قيس.
أرى الفاشية قد حسمت أمرها وتخلت عن دعم المنقلب، وترى نفسها وريثة شرعية للدولة وهي تريد أسلابه/ فلوله في حزبها قبل أن يتشتتوا بين أدعياء كثر؛ ينتظرون بدورهم بعض الفيء.
النقابة والحزام اليساري يجلس بين الكرسيين
يصدر عن النقابة تصريحان متناقضان؛ أحدهما يعلن التفاوض مع حكومة بودن (أي الرئيس الذي يتظاهر بعدم رؤية النقابة في الساحة)، وآخر يشعر الرئيس بين عبارات الأسف والتذمر أنه غير راض عما يجري، ولكن (إذا منحت النقابة مكاسب فستدافع عن الانقلاب) تحسن النقابة الجلوس بين كرسي الولاء والطاعة وعرض المساعدة، وكرسي الابتزاز والتهديد بالتصعيد. وهي هناك الآن لا هي مع المعارضة فتنصرها في الشارع ولا مع الرئيس فتنزل لنصرته. ولسان حالها يقول إن اختيار الشارع سيكون نصرة للنهضة، وخيار الرئيس سيكون قطيعة مع الخائبين من الرئيس وإعلان الموقف الآن فيه خسارات، ولكن التردد إزاء نصرة الرئيس صراحة لم يعد محل شك في النقابة، ووجب التأخر خطوتين في انتظار الآتي. وهو نفس الموقف مع ابن علي حتى يوم 13 كانون الثاني/ يناير 2011، وخطاب البلكونة للأمين العام الذي ساند ابن علي حتى ليلة الرابع عشر ليصبح يوم 15 قائد الثورة.
لا أجد في موقف النقابة ما يدل على إيمان حقيقي بقدرة قيس سعيد على الاستمرار في الحكم.. إنهم في النقابة يخططون لتقاسم الغنيمة (دون دفع ثمن إسقاطه)، ولكن "اللعنة" النهضوية لا تزال في المشهد لذلك، فإن بعض الانتظار مفيد؛ عسى أن يشن قيس حربا استئصالية.. سلوك الرئيس غير القابل للتوقع هو الذي يؤجل حسم الموقف.
بقية ما يسمى بالطيف الديمقراطي يعدل موقفه على موقف النقابة، فلا وجود لهم في الشارع إلا بالنقابة، وحتى التراجعات اللفظية التي صدرت عن بعض أفواه حركة الشعب أو عنتريات محمد عبو وزوجته تصب في اتجاه عدم المزايدة على النقابة، فكل مكونات هذا الطيف لا يمكنها إنزال ألف رأس في الشارع.
ليس في الجيش أو الأمن نسخة أخرى من ابن علي
من يتولى بعد قيس وكيف سيفعل مع النهضة (التي لا تموت)؟ القيادة العسكرية التي اختفت خلف قيس سعيد وتظاهرت بالحياد لا تملك شجاعة ابن علي، لذلك لن تقدم نفسها للحكم (تراجع البرهان في السودان زاد في جبن كل عسكري جبان)، علما أن ابن علي عبر مسيرته المهنية في الجيش والأمن كان قد ملك معرفة بدواخل الدولة وكيفية السيطرة على السياسيين الموالين والمعارضين له، فضلا عن اختراقه للأجهزة الصلبة. القيادة الحالية ولو وصفتنا بالجهل نعرف أنها تجهل ما علم ابن علي، فضلا على أن معركة الخوصصة الاقتصادية ومعركة تصفية الإسلاميين في الطريق، والتي وُظف ابن علي لإنجازها، قد انتهت ولم يعد هناك ما يخوصص إلا تراب البلد.
وإذا تجرأت فستكون في جرأتها نهايتها؛ لا لأن الجمهور سيخرج عليها (الجمهور الواسع ما زال يعيش بصورة رومانسية للمؤسسة العسكرية)، بل لأنها ستجد نفسها في الحفرة الاقتصادية والاجتماعية التي وقع فيها قيس سعيد. وما من عاقل يرمي بنفسه في أزمة مماثلة، فالقوة العسكرية يمكن أن تخمد صوتا إلى حين، لكنها لن توجد له الخبز الكافي ليواصل الصمت. الخبز معضلة قيس، ولكنها ستكون معضلة من يتقدم بعده.
إذن من يكون بعد قيس؟
الأكيد أن الجميع متيقنون من نهايتهم القريبة (هناك اختلاف طفيف في تقدير يوم السقوط)، ولذلك فإن صراعاتهم الآنية تتجه إلى الفوز بأكبر مغنم سياسي بعده. لكن تظل العقدة في المنشار.. النهضة حاضرة لأخذ قسطها الوافر بحكم أن الانقلاب لم يفلح في تفتيتها وضربها (وقد كان ذلك مطلب أنصار الانقلاب)، كحل الحزب وسجن قياداته على طريقة ابن علي، وهو غاية المنى، وهو ما لم يتم، ويعتبر ذلك رفدا لقوة الحزب الذي نجا من مسؤولية الحكم ويستعد لترميم صفوفه.
لقد طرح الجميع السؤال: كيف نكون بعد قيس سعيد دون النهضة؟ وكانت الإجابة محل اتفاق: النهضة لا تزال في المشهد. يروج الإعلام المعادي للحزب منذ الأزل أن الحزب انتهى وتفكك، ولكن الإلحاح على الفكرة يدل على عكسها. فلو اندثر الحزب كما يزعم الإعلام لحُلت كل عقد النخبة؛ الاستئصالي منها والمهادن المناور.
في المشهد النهضة التي حافظت على قدر كبير من تماسكها رغم استقالة المائة (وهو الحدث الأبرز في الأشهر الأخيرة)، وتستعد بدورها لأخذ قسطها من إرث قيس. وقد استعرضت قوتها الفعلية في الشارع، بل لديها أمل إضافي في أن جزءا من النخبة السياسية قد عدل موقفه ونسق معها الحراك في الشارع، وهناك حديث متفائل جدا عن ميلاد الكتلة التاريخية (لا آخذه بجدية كافية).
في كل الحالات تبدو النهضة على يقين مثل غيرها بنهاية قيس وإجراءاته الاستثنائية، لكنها تسير الهوينى منتظرة أن تعصف به الأزمة الاقتصادية والاجتماعية فيكون الثمن من غير لحمها الحي. وهي في انتظار سقوطه تنتظر أيضا أن يفقد بقية المنتظرين الأمل في قدرتهم دونها، فيأتونها للتنسيق في ما بعده. وهذه حسابات الحرث ولا قدرة لنا في هذه اللحظة على توقع حساب البيدر، واليقين أن قد سقط قيس، والمناورات الآن تتعلق بالمرحلة الموالية، وفي يد كل طرف آلته الحاسبة وإنّا مع المنتظرين. يقين آخر لا يتسرب إليه الشك: بعد قيس لن تنتهي معارك الاستئصال التي استنزفت البلد.